ما الذي يعنيه أن يكتب شاعر شعبي قصائد بالفصحى أو العكس؟ لماذا يجرّب سعدي يوسف أو عواد ناصر مثلا كتابة الأغاني في أوقات ما؟ هل كانت مجرد نزوة عابرة أم تراها حنينا لشعبوية فقدوها؟ بالمقابل، لماذا يتحول مظفر النواب إلى الفصحى رغم أنه مثّل رأس مدرسة في الشعبي؟ هل تراه أحسّ في لحظة أنه أقلّ مستوى من زملائه شعراء الستينيات "غير الشعبيين" من أمثال فاضل العزاوي وفوزي كريم وسواهما؟ خطر هذا في ذهني وأنا أطالع قبل أيام تقريرا جميلا كتبه أحد محرري مجلة (شعر 69)، في العدد الثالث الصادر في تموز العام 1969، وموضوعه هو تحوّل مظفر النواب للكتابة بالفصحى بعد نشره قصيدة في مجلة (مواقف) اللبنانية، وكانت تلك المرة الأولى التي يجرب فيها كتابة الشعر الفصيح بعد أن أصاب شهرة عريضة في الشعبي. الحق أنني ابتسمت من طرافة التقرير وتذكرت الصراع الهزلي بين الشعبويين والنخبويين، أي بين من يحسبون أنفسهم على الثقافة العالمة، الرفيعة، وبين من يعدون بوصفهم مثقفين شعبويين كالنواب وشمران الياسري وعريان وسواهم. فرغم أن الأخيرين ينتمون للجيل نفسه الذي ينتمي له "الرفيعون"، إلّا أن مسحة من الازدراء المضمر ظلت تلاحقهم حتى اليوم. التقرير كان بعنوان "مظفر النواب يكتب شعرا فصيحا" وفيه يخبر المحرر ـ أظنه فاضل العزاوي بدليل تكراره الرأي نفسه في كتابه (الروح الحية) ـ قرّاء المجلة أن النواب تحوّل للفصيح في وقت كان ديوانه (للريل وحمد) في المطبعة، منوّها أنه ذو جمهور واسع و"قد يضاهي جمهور الجواهري والبياتي"، وهو"رأس مدرسة في الشعر الشعبي، فثمة عشرات من الشعراء مشوا في طريقه رغم انهم لم يتوفروا على مجموعة له". والأهم من ذلك أن شعره، أي النوّاب، "ليس شعبيا سواء في صوره أو طريقة طرحه أو أفكاره أو الأبعاد التي يصل إليها، فهو بالتالي شعر لا يستمد جذوره من الفولكلور العراقي بقدر ما يستمدها من شعرنا الحديث". الكاتب يضرب مثالا على ذلك بقصيدة "جنح غنيده" التي كانت نشرت في (ألف باء) العام 1968، فهي برأيه "لا يصح أن تدخل في تراثنا الشعبي يوما ما، ذلك لأنها أبعد من أن تكون قصيدة غزل، وأبعد وأعمق من أن يستوعبها فلاح حتى وأن قرئت عليه عشرات المرات، وبالتالي فأن السويحلي والعتابة يظلان أقرب إلى فلاحنا وأصدق في التعبير عن مشاعره منها رغم أنها أعلى فنا بما لا يقاس". النسق المخفي يعمل عمله هنا مزريا بشعبيات مظفر النواب من حيث يمدحها فهي ليست من الفولكلور في شيء وأقرب ما تكون لشعر مكتوب للمثقفين، ثم في الطريق، يدهس البلدوزر"الحداثي" الفلاحين فيترك لهم العتابة والسويحلي كونهم لن يفهموا "جنح غنيده" ولو قرئت عليهم عشرات المرات. السبب هو افتقارهم للذهن المركب الذي يملكه المثقفون وهو ما لم يقله الكاتب ولكن النسق المضمر فضحه من حيث لا يدري. آراء العزاوي هذه تتكرر لدى كثيرين كتبوا عن النواب كعلي الشوك، فرغم يسارية الأخير وانتمائه لقيم المسحوقين، إلّا أنه حين يتناول تجربة النواب، في عدد من مجلة (المثقف)، ينطلق من الرؤية نفسها والخلاصة: هذا ليس شعرا شعبيا أبدا بل هو شعرٌ مثقفٌ وابن مدينة لا ريف. نعم، هذا صحيح، أنا أقول ذلك أيضا؛ النواب شاعر حداثي وهو أقرب في عوالمه لشعراء الحداثة. ولكن، هل يبرر هذا الإزدراء بشعبيّه وتحقيره بسبب اللهجة، ومن ثم وضعه في موقع أدنى من الفصيح؟ تراهم يمدحونه ظاهريا بالقول أنه "شعر شعبي للمثقفين"، لكنهم يطعنون به بشكل خفي عبر تلميحهم للهجة التي يكتب بها. يحتفون بمضامينه وصوره المعقدة في وقت يزمون شفاههم وهم يشيرون لعاميته قائلين ربما ـ رائع، لكنه شعر شعبي في كل الأحوال! النقاد الثقافيون تحدثوا عن ذلك مطولا ولعلي عائد لهم في مقالة أخرى فانتظروني.
|