بين الموروث المدوَّن، والمأثورالشعبي الشائع شِفاها ً

ولدت اللغات ونمت كوسيلة لا إستغناء عنها في إحتواء الأفكار الإنسانية ، وتداولها وتأمين التواصل بين أفراد المجتمع ، من هنا جاءت أهميتها في حفظ التراث الإنساني عبر الحقب التاريخية الموغلة في القدم ، ما أتاح فرص الإستضاءة بتجاربها المحمولة على مقولاتها الفكرية بين الأجيال المتلاحقة . كما تُعد اللغة أداة ً لحفظ الوحدة الثقافية للمجتمعات ، ومنها مجتمعنا العراقي ، المعروف بثراء تراثه ، وعمقه وتنوعه ، بحفاظها على موروثه المدوَّن ، ومأثوره الشائع المنقول شِفاها ً .

إن تعدد اللهجات في الوطن العربي ليس غريبا ً ؛ فلم تتوحَّد لغات ( لهجات ) العرب ، بما نعرفه من الفصحى المتداولة حاليا ً ، إلاّ بعد نزول القرآن الكريم بلغة قريش . ورغم إعتمادها لُغة ً للتأليف والعلم والمراسلات ، والدواوين الرسمية ، إلاّ أنها إحتفظت الى جوارها بالعديد من اللهجات الأصيلة ، التي تعكس تنوّع مظاهر البيئة الطبيعية والحضارية للمجتمعات العربية ، ما أثرى عناصر الإبداع الشعبي ، ضمن أنماط متّسِقة ، وطُرُز تتسم بالأصالة ضمن وحدة ثقافية حيَّة غير منقطعة عن الموروث المُدوَّن بالفصحى .

واليوم نلمس تقارب اللهجات العامية من الفصحى بسبب التطور في وسائل الإتصال والنقل والتعليم ، حيث يجري تهذيبها ، والتخلُّص مِن وحشيِّها ودخيلها وغريبها ، مع التبسيط في اللغة الفصحى ، ما يزيد ثقتنا بإعتمادها لغة ً عملية في حياتنا اليومية ، خلال مدة زمنية قد لا تطول كثيرا ً .

وبطبيعة الحال ، فإن هذا الأمر لا يتعارض مع أهمية الإستمرار في حفظ تراثنا الشعبي المنقول شِفاها ً ، شِعرا ً كان أم حكايات وسِيَرا ً ومآثِر ؛ لكونه يشكل جانبا ً من التوثيق للإبداع الإجتماعي ، ويُسهم بتفعيل العلاقات الإنسانية ، لِما يمتاز به التراث الشعبي مِن أُلفة بين العامة، وقُدرة على التأثير فيها ، أخلاقيا ً وسياسيا ً وتعبويا ً ، دون المساس بسلامة الفصحى ، التي إنما تنمو وتتعافى بموازات التطور الحضاري العام .