بينما أنا أمس أقلّب في ملفاتِ حاسبتي وقع بصري على رسالة لطيفة أرسلتها لي صديقة ذات يوم وفيها تلومني لوما شديدا بسبب استغراقي في "الذاتيات" وإغرائي لكتاب شبان على السير في هذا الطريق المحفوف بالمخاطر. إنها تعتقد أن طريقتي "ناجحة" واجتذبت قراءً كثرا لما أكتب وهو ما "أوهم" بعض الكتاب أن مجرد حديثهم عن يومياتهم يمكن أن يجذب انتباه الآخرين لهم. ثم تضيف أنه ليس ذنبي بالتأكيد ولكنني صرت، بطريقة أو بأخرى، سببا في شيوع هذه "الوهم" عند من لا يتوفرون على مقومات المقالة الناجحة. ولكن ما هي مقومات المقالة الناجحة؟ هل ثمة عنصر ما يجب توفره لتكون المقالة ناجحة أم هي مجموعة عناصر يصعب تفكيكها؟ سؤالان لست مهيأ للإجابة عليهما ذلك أنني شخصيا لم أطلع على دراسات نقدية مختصة بهذا الفن إلّا على أضيق نطاق. بل لدي انطباع أن كثيرا من الباحثين لم يعترفوا به كواحد من فنون الأدب، وكان هذا يعني بقاءه سائب الحدود ومنفتحا على هذا الفن أو ذاك، فتارة تبدو المقالة أقرب ما تكون للقصة القصيرة، وهي طورا تبدو وكأنها "نثر مركز" حسب فهم الراحل حسين مردان لها. تراها حينا توأما للتقرير الخبري بينما تبدو في لحظة أخرى مماثلة للدراسة النقدية القصيرة. مع هذا، ثمة لدى الراحل علي جواد الطاهر تعريف رائع لها يأتي في سياق حوار أجري معه، علما أنه من رواد النقد المبرزين ولا يلقي الكلام على عواهنه، فضلا عن ريادته لفن المقالة الذي برع فيه البراعة كلها لدرجة أنك لا تكاد تقرأ سطرين له حتى تتعرف عليه من دون المرور باسمه. يقول الطاهر انه بسبب مرانه واستمراره بكتابة المقالة كان بلور أسلوبا "ارتضاه كثيرون من القرّاء، ومنهم يرى أنه متميز فلو قرأ سطورا من مقالة لعرف صاحبها وألمح إلى ضرب من الشاعرية يشيع خلال سطوره". ولكن من أين تتأتى الشاعرية يا أستاذنا؟ يجيب الطاهر أن"مآتي هذه المسحة من الشاعرية: صدق في التجربة وشيء من الذات وصدق في اللهجة وتفنن في عجين اللغة، بعيدا عن ادعاء العاطفة التي لم تكن واللعب الخيالي القائم على الافتعال". نعم، الطاهر يختصر الفن كله بهذه المحاور التي لو توفرت لعثرنا على مقالة لا تقل في تأثيرها عن القصيدة. ذلك أن فيها مزيجا غريبا ومحيّرا تتكون مواده من: أسلوب لغويّ وعقل مركب ورؤية واضحة للأشياء، وقبل ذلك، مزاجٌ شخصي ينبث من خلل العبارات كالضوء فينير الفكرة ويعطيها ملمسا وبشرة. لكأننا إزاء بصمة فردية يختصرها علي جواد الطاهر بـ" صدق في التجربة وشيء من الذات وصدق في اللهجة والتفنن في عجين اللغة". أما الصدق في التجربة، حسب فهمي، فهو أن يكتب الكاتب ما يخطرُ في ذهنه من أفكار بغض النظر عن توقّع استجابة الآخرين، تحفّظهم، إعجابهم أو حتى امتعاضهم منها. هو أن يكتب المرء لنفسه ملتمسا متعة يصعب تفسيرها أو التنظير لها. أو بمعنى آخر، هي الكتابة للذات والاستمتاع بذلك وعدم انتظار استجابة الآخرين، وهذا دأب الكاتب الحر، المنعتق من ضغط الآخر، المحلّق في عوالمه الفردية، الطائر بجناحيه بعيدا عن الحدود التي تصطنعها الايديولوجيات أو اتجاهات الصحف التي يكتب فيها أو حتى النمط السائد المفضّل لدى القرّاء. ثمة الـ"شيء من الذات" الذي هو ألذّ من العسل بالنسبة للكاتب، ولكن بشرط عدم "ادعاء العاطفة التي لم تكن واللعب الخيالي القائم على الافتعال"، وهو ما أشارت اليه الصديقة المذكورة في رسالتها وهي تنوه لسقوط بعض الشبان في فخ اليوميات التي يظنون أن توفرها كفيلٌ بجعل المقالة مقروءة. أخيرا، ثمة التفنن في عجين اللغة، وهذا لا يتأتى إلا لمن غرق في بحر التراث وخرج بشق الأنفس محملا بكنوزه. هل يتوفر هذا لدى الجميع؟ لا أظن ذلك أيتها الصديقة الذكية.
|