ربما يصعب أن تجد بين عامة العراقيين اليوم شخصاً لامنتمياً، فكل العراقيين -إلا مَن ندر- هم اشخاض منتمون. ولكن أيهما قبيح وأيهما حسن: الانتماء أم اللانتماء؟ سؤال ستتضح إجابته في الأسطر التالية. إن الانتماء إلى كانتونات وتكتلات حزبية وسياسية وطائفية وقومية... لا شك أنه الأمر السائد والرائج في المجتمع العراقي منذ عقود بل منذ قرون خلت، بل لا خصوصية للشعب العراقي في أن يكون منتمياً في تكتلات من هذا القبيل، أليست شعوب الدنيا بأسرها منتمية؟ أليس الانتماء القومي او الإثني أو اللغوي من أوضح الانتماءات البشرية ولا يشذ عنها انسان على وجه البسيطة؟ لا يعقل أن يوجد شخص على هذه الارض يمكن وصفه بـ(اللامنتمي)، فاللامنتمي الصرف لا وجود له إلا أن يكون آتياً من كوكب آخر... إذا كان الأمر على هذه الشاكلة وأن الانتماء هو (القاعدة) فما الضير في أن يكون الشعب العراقي متعدد الانتماءات ومنتوع الولاءات؟ وقد استعار بعض اصحاب الخيال والواسع استعارة بليغة حين شبّه الشعب العراقي بحديقة أو بستان من الزهور المتنوعة أو بفسيفساء من الالوان والأشكال الخلابة. وحينئذ فتعدد الانتماءات أمر جميل ويبعث على التفاؤل... ولكن لماذا هذا التفاؤل المفرط؟ لماذا لا ننظر إلى النتائج التي تمخضت عنها هذه الانتماءات، لماذا نحاول دائما العبور على الواقع والمعقول فنفتش عن قيمة تقبع في خانة الوهم والخيال (واللامعقول) ثم نسقطها على الأمر الماثل في الخارج، وكيف يتفق أن يتطابق الخيال الفضفاض مع واقع أصلب من الصخر من جهة تحققه وحضوره؟ إن قراءة واعية للواقع الراهن تكشف لنا كنه حقيقة الأمر من دون حاجة إلى الاستغراق في حلم يقظة جميل يداعب الخيال في في بعض الأحوال. إن الانتماء هو السبب الرئيس لظهور المشاكل والأحقاد والخلافات والنزاعات بين الافراد أو ضمن الجماعات المنضوية تحت هذا العنوان الذي يصدق على الجميع بالسوية: (الشعب العراقي). فمن الصواب أن يقال إذن: أن تكثر الانتماء هو أس البلاء... لقد كان يوجد في العراق في الازمنة القديمة انتماء حضاري، كان العراقي هو السومري والآشوري والبابلي... ثم مضت هذه الحقبة فصار الانتماء يتمحور في حول الانتماء العقائدي وخاصة بعد مضي فترة الخلافة الراشدة، فأصبح هذا الشخص معتزلي وذاك اشعري وذياك إمامي، ثم خطونا خطوة أخرى أكثر تعقيداً حينما ابتُدعت المذاهب حيث أضحى الانتماء مذهبياً، ثم ظهرت الفرق في ملة الإسلام وأنهاها بعضهم إلى نيف وسبعين فرقة كل منها تدعي أنه هي (الفرقة الناجية)، وبعد أن انحسر الافتراق وتباعدت الأزمان أطلت الطائفية برأسها وظهرت الطوائف التي هي عبارة عن تكتلات مذهبية، وسبب التكتل هو الخصومة الأيديولوجية، فالمذاهب الاربعة (المالكية والحنفية والشافعية والحنبلية) تكلت في مواجهة (الشيعة الإمامية)، فمنذ هذه اللحظة صار الانتماء في العراق يدور حول هذين القطبين العقائديين: السنة والشيعة، وحصلت بسبب ذلك صراعات مؤسفة افضت إلى خسائر عظيمة في الارواح والممتلكات في أزمنة مختلفة وإنْ خللتها فترات من الهدوء والسلام ولملمة الجراح. ثم أتى على شعب العراق حين من الدهر فجاء عصر الانحطاط وأعقيه عصر النهضة قبل ظهور الاتجاه القومي، فشهدنا نوعاً آخر من الانتماء: فزيد كردي وعمرو عربي وبكر تركماني. وأخيراً جاء الانتماء (الحزبي) وتعددت الأحزاب بعد انقراض نظام الحزب الواحد إلى العشرات بذريعة (الديمقراطية)... والذي زاد الطين بلة أن الاحزاب لم تنشأ إلا على أساس طائفي، أي أنك (على سبيل المثال) لا تجد في الحزب الاسلامي منتمياً من الشيعة، ولا تجد في حزب الدعوة منتمياً من السنة، فالأحزاب تغذيها الطائفية وتتوغل فيها حتى النخاع. بعد ما تقدم أصل إلى هذه النتيجة: إن (الـلانتماء) مع أنه الاستثناء من القاعدة إلا أنه مطلب النخبة الواعية والمثقفة من الشعب العراقي، فـ(الانتماء) في هذه المرحلة من تاريخ العراق ليس سوى إمعان في التشرذم والتشتت والصراع، أي أنه بالمنظور الأخلاقي فعل قبيح ينبغي تجنبه، بينما (الـلانتماء) فعل حسن وصحيح. ولمعترض أن يقول: أليس الانتماء إلى العراق من جهة كونه (وطن الجميع) هو الأصل، فلماذا لم تُشر إليه؟ أقول: إنما يكون الانتماء الوطني حسناً وصواباً بشرط التجرد عن الانتماءات الاخرى ولاسيما الانتماء الطائفي والحزبي، فلا يستقيم أن يكون العراقي وطنياً وطائفياً في نفس الوقت، إن ذلك يجعلنا في مواجهة مع (لامعقول) تكون نتيجته وخيمة وحتمية: (فقدان الثقة بقيمة الوطن) بل التشكيك بوجود هكذا قيمة أصلاً، تماماً كما هو حاصل اليوم، فالولاء للوطن قد تضاءل إن لم يكن قد اضمحل.
|