المرة الأولى التي كنت قد جربت فيها أن أدفع ديوانا للنشر في دائرة الشؤون الثقافية (وزارة الثقافة) كانت في عام 1985، كنت جندياً وخلال إجازتي قدمت نسختين من مخطوط ديوان لي، وراجعت الدائرة بعد شهرين. أخبرتني السيدة موظفة النشر أن الدار والخبير يعتذران عن طبع الديوان أو تعضيده، وقدمت لي تقرير الخبير لأطلع عليه وقد تم رفع اسمه. كان التقرير منصفاً.. فهو يطري الديوان كثيرا بجوانبه الفنية، لكنه يعتذر بأدب واحراج واضحين عن الموافقة عليه لمخالفته الضوابط المعتمدة في النشر حينها والتي تؤكد على أن يكون في الديوان المراد طبعه بعض نصوص عن الحرب التي كانت في أوجها. استطعت بدقة تخمين الخبير، وهو شاعر بعثي ومبدئي، بمعنى أنه ليس من الانتهازيين أو المرغمين على الانتماء.. كانت ملاحظاته ما تزال على المخطوط وكلها ايجابية، وما زلت احتفظ بالمخطوط الذي لم أطبعه حتى الآن وبصورة من التقرير. تفهمت الحرج الذي كان الرجل فيه، بين أن يرضي ضميره الثقافي وبين أن يلتزم بالتعليمات، فسحبت الديوان مستغنياً عن مقترح للسيدة الموظفة بالاعتراض على التقرير وطلب إحالة الديوان لخبير ثانٍ كما تقضي أعراف الدائرة سابقاً وحالياً. فوجئت وقبل أن أغادر السيدة بناقد، وهو أستاذ جامعي، كان يمكن أن تحسبه على (المثقفين المعارضين) حينها، وقد استمع لكل ما دار بيني وبين الموظفة بشأن التقرير وسبب رفض الديوان، لم يتفوه بأية كلمة حتى هممت بالمغادرة ليناديني، وكنت أنا أعرفه وهو لا يعرفني، قائلاً بما يشبه الشماتة والتأنيب: ولماذا لا تكتبون عن الحرب؟ وإذا كنتم لا تكتبون عن الحرب لماذا تقدمون دواوينكم للنشر؟ صعقت بما سمعت. وغادرت بعدما قلت له: أنت دكتور فلان، معقولة؟ هل تعرف أن تقرير الخبير كان مهذباً وأن الخبير هو الشاعر فلان؟ فوجئَتْ الموظفة بتوقعي اسم الخبير فضحكت، وذهلت مما سمعته من الناقد فصمتت. كان الخبير كما قلت شاعرا بعثيا، بينما الناقد كان يصر على أن نتعامل معه كمثقف معارض.
|