أعْراقٌ وعِراقٌ؟!

 

العراق يعني شاطئ الماء, أو البحر وسمّي العراق عراقا لأنه على شاطئ دجلة.

ويُقال استعرقت الإبل إذا رعت قرب البحر , وكل ما اتصل بالبحر من مرعى فهو عراق.

وأهل الحجاز يسمون  ما كان قريبا من البحر عراقا, وقيل سمي العراق عراقا لأنه استكفّ أرض العرب.

وقيل سمي عراقا لتواشج عروق الشجر والنخيل, كأنه أراد عرقا ثم جُمع على عراق.

وأعرق القوم أي أتوا العراق.

والعراق مأخوذة من عروق الشجر وهي بلاد منابت الشجر.  والعوارق الأضراس.

والأعراق: من عرق كل شيئ أي أصله , والجمع أعراق وعروق.

ورجل مُعرق في الحسب والنسب.  وأعرق الرجل أي صار عريقا أي كريما.

والعروق: عروق الشجر والواحد عرق, وأعرق الشجر وعرق وتعرّق أي امتدت عروقه في الأرض. 

والعراق في معناه الأصوب تشابك جذور الحياة وتفاعلها المتلاحم من أجل العطاء الأوفر, وهو التعبير الأصدق عن الخصب والنماء, فيه نهران يجريان للإلتحام ببعضهما, ونخيل متكاثف , ومتكاتف مع الشجر , ومتفاعل مع جذوره , لينسج ملحمة التوحد الحي تحت التراب وفوقه.

ولهذا فأن ما فوق أرضه , متشابك بقوة معبّرة عن صلادة تلاحم جذور العطاء وطاقة النماء.

وبهذا فهو لجميع مواطنيه , ولا يمكنه أن يكون لأحد دون غيره, ولا يتفق مع حضارته وطبيعة نشأته التأريخية , أن يصبح أعراقا متفرقة وليس عِراقا , لأن السعي نحو خلخلة نسيجه  المتلاحم , كالسعي نحو تفريق جذور النخيل والشجر , وبهذا يتحقق القحط والخراب.

ويبدو وفق المفهوم النفسي والفكري والحضاري, عبارة عن بودقة ذوبان الأعراق لصناعة العراق. وما يجري في عالمنا المشوّه, هو محاولة تحرير عناصره من تفاعلات القوة والإقتدار , ورميها في تفردها وضعفها وتبعيتها لمجهول.

وبما هو يعني تشابك الأعراق وتمازج العناصر, فلا يمكنه أن يتحول إلى فرّق وأحزاب وطوائف وتجمعات على بعضها, لأن ذلك ليس من طبعه الحضاري وأخلاقه وقيمه التأريخية.

إنه بلد الإختلاف المتفاعل الخلاق , ونوابغ الفكر , وموطن الأئمة والقادة والشعراء , ومناهج التفكير الإسلامي والعربي والعلمي, وعلى أرضه بزغت أنوار التنوع والتجدد والتطور والعطاء , لتكون رحمة للناس أجمعين.

وعلى ترابه أُخترعت الحروف , وكتب البشر أول قصائده وحكاياته ومسرحياته ورواياته وعهوده ومواثيقه وعزف الموسيقى وشدى بالغناء, ووضع دستوره الذي لم يسبقه دستور, وشرح فيه ضوابط السلوك المتحضر , الذي يحقق السعادة , ويساهم في رعاية الفضيلة ومناهضة الرذيلة.

فالعراق الذي تماسكت فيه أعراق الوجود والحضارة , لتصنع منه رمزا خلاقا وحيّا لروعة الإختلاف والتنامي الإبداعي الأصيل, لا يمكن لأحد أن يقطعه من جذوره ويمحو ألوانه , ويحرق فسيفساء وجوده الإجتماعي الجميل, بأزياء أبنائه المختلفة ووجوههم النضرة , ولهجاتهم المتعددة ولغاتهم الرائعة المتنوعة, وأفكارهم ومذاهبهم ودياناتهم وأغنياتهم ورقصاتهم ودبكاتهم , وكل معاني فلكلور وجودهم المتصل بأعماق الوعي الإنساني المجيد.

فكل حي فيه يستمد نبضه من قلبه الكبير , الذي لا يحتمل أن ينقطع أو يبتعد عنه في أي حال من الأحوال, وينكره من غير ألوان وتنوعات مثلما النخيل والأطيار والمياه , التي لا يعجبها إلا التنوع والإختلاف الجميل.

بلد العقول الأصيلة المعبّرة عن فكرها , والدولة الإسلامية في أوجها وقمة سطوعها , وغاية قوتها وبنائها المجسد لجواهر الأفكار , التي جاء بها خاتم الأنبياء والمرسلين , ففيه كل الأفكار والرؤى والتصورات , منذ أن إنتشر نور الإسلام , وراح يسعى ككرة الضوء المنيرة , فتزداد حجما وتوهجا مع الأيام.

فهو ينبوع دافق , لما يتعلق بالدين من شؤون وشجون , ويرتبط بالفكر الإنساني من توجهات وتطلعات , ذات قيمة إبداعية صادقة , وفيه أريج النسمات الروحية والخلجات النفسية , وصدى الإيمان واليقين والبرهان , والإمعان بأعماق الحق والإنسان.

العراق المولود من رحم سومر وأكد وبابل وآشور , والمبني بأذرع آلاف السنين , ومئات الأجيال التي حملت إرادتها وشيدت معالم عزتها في درب الوجود الأكبر , لن يتنازل عن ملامحه وقيمته وضرورته , فالأرض لا تقبل بغير وجوده المتماسك القدير.

وكل الحضارات التي حاولت أن تضيف شيئا لمسيرتها , كانت تحج إليه ومنه تطل على الأرض , ولا توجد إمبراطورية تسيّدت , إلا وكان لها فيه شأنا ووطرا من سومر إلى اليوم.

فاسألوا كسرى والإسكندر المقدوني والإمبراطوريات المتعاقبة , وستعرفون أن الذي يريد  أن يمسك الأرض من عنقها عليه أن يتمكن من العراق. وتلك حقيقة الأحداث والتداعيات التي يصعب تفسيرها, لكن مسيرة التأريخ تشير إلى أنه هو الموضع الذي يمكن أن تُمسك الأرض منه , وتُدار وفقا لمشيئة القوة الماسكة به.

وكان العرب في أول عهدهم قد أمسكوا به , ومنه انطلقت الفتوحات , وبسبب أهميته تم إتخاذه مسرحا للتفاعلات التي أنارت دروب الإنسانية بالإضافات المِقدامة , وفتحت أبواب العلوم والآداب , وأنجبت جهابذة العقول ومؤسسي العلوم الحية , كالرياضيات والهندسة والفيزياء والفلك والكيمياء والطب , وكل ما يخطر على بال من علم ورأي وتصور.

عراق الأعراق والإنسان والتنوعات والعطاءات اللامحدودة, هو الذي يكون ويتألق ويتحقق , أما أي إتجاه ضد دمج الأعراق, أو محاولة لتفريق العروق والجذور والأصول, فأنها تدمير لأيكته الوارفة , التي يتظلل بوجودها كون المسيرة الإنسانية , وتسقيها مياه النهرين دجلة والفرات في رحلة ما بين الأزل والأبد.