مدخل في نعيم القبر وعذابه.. الجزء الثاني والاخير.. بقلم: خلدون طارق |
تناولنا في الجزء الاول من المقال انواع المعارف ووسائل تحققها ودرجات القرب المختلفة... ومن المهم أن نؤكد ان عالم الآخرة الذي يبدأ بعد الموت مباشرة، له وسائل خاصة للإدراك تختلف عن الوسائل التي نحن نمتلكها في حياتنا الدنيا. فعالم الآخرة ليس مكان حسي يشغل حيزا في الزمان والمكان يمكن لنا ان نراه بعيوننا المجردة ولا ان نلمسه ونحدده في أرضنا وكوننا الفضائي... فهو عالم اخر خلقه الله تعالى له قوانينه الخاصة وارضه الخاصة وسماؤه الخاصة وزمنه الخاص به الذي يختلف عن عالمنا كلية حيث يقول الله تعالى في كتابه الكريم {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ }يس81 فهذه الاية تؤكد على قدرة الله تعالى على خلق عوالم اخرى وهذه القدرة ليست بالكلام فقط انما هو ما ستراه اعيننا في عالم الآخرة حيث قال الله تعالى {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ }إبراهيم48 هذا هو عالم اخر بارض جديدة وسماء جديدة وقوانين خاصة لا نستطيع ان نلم بها البتة ، وقد وضع القرآن الكريم قاعدتين مهمتين من خلالهما نستطيع القول ان كل الآيات وكل الأحاديث النبوية الشريفة التي وردت في وصف نعيم القبر وعذابه، والجنة والجحيم أيضا يجب ان تخضع لهما. والتي تقتضي بدورها أن تُفهم على أنها أمثلة تقريبية وليست تعبيرات حرفية عما سنلتقي به بعد الوفاة، وانما كل الآيات التي تصف الجنة والجحيم هي أمثلة ومجازات للتعبير عن حالات لا يمكن لنا فهمها بما نمتلكه من إدراكات حسية وعقلية. والقاعدتان هما:
{مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ} الرعد 35 {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} السجدة 17
فهاتان الآيتان تثبتان أن عالم الآخرة الذي يصوره القران الكريم في العديد من آياته يجب ان لا تُحمّل على الحرفية، وإنما قيلت على سبيل المجاز والتوضيح. فالله تعالى قال عن الجنة كما أوضحنا في الجزء الأول بأنها "كمثل" جنة تجري من تحتها الأنهار، فهي ليست جنة كما نقدر ان نتصورها. وقال عن نعيمها لا تعلم نفس ما أخفي لها من قرة أعين، وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام عن الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. لذا فان كل الآيات التي تتحدث عن الجنة هي بالحقيقة لضرب الامثال لتقريب مفهومها لعقولنا التي لا تستطيع ادراك إلا ما تعرفه ، لذلك يقول الله تعالى عن الانسان في لحظات الموت {لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} ق22، أي ان الإنسان سينتقل بعد الموت ليدخل في عالم جديد سيكسب فيه معارف وقوى لم يكن يمتلكها في الدنيا، فسيُكشف عن بصره ويصبح كالحديد لذلك قال الرسول الأعظم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم (الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا) ولتقريب هذا المفهوم اكثر سنعرض مثالا لتعريف الفرق بين عالم الدنيا وعالم الاخرة وهو بالضبط كالفرق بين الجنين وبين رجل بالغ، فلو تكلم الرجل البالغ مع الجنين ليصف له الحالة التي سيمر بها بعد خروجه من رحم أمه الى رحم الحياة العابرة لاضطر لاستخدام كلمات وتعبيرات بدائية ولاستعمال إشارات يدوية تقرّب مفهوم الدنيا الواسع لعقل الجنين البسيط الذي لا يمتلك بعد قدرة عقلية كافية تمكنه من فهم العالم الدنيوي. كذلك الانسان في عالم الدنيا وعالم الآخرة فهو سيمر بمرحلة تختلف عن الحالة التي يعيشها حاليا، وتقع وسائل استيعاب كنه ذلك العالم خارج حدود قواه العقلية التي يمتلكها. وبعد هذه المقدمة لا بد لنا ان نتناول بعض الآيات والأحاديث التي تعرضت لمسألة القبر وعذابه ونعيمه...في البداية نذكر ما ورد عن الامام علي بن ابي طالب رَضِيَ اللهُ عَنْه الذي قال بأن الشك وقع في قلوب المسلمين حول وجود عذاب القبر لكنه انتهى بعد نزول سورة التكاثر. كما أورد البخاري عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم في تفسيره لآية {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ} إبراهيم 27، فيقول: حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن علقمة بن مرثد عن سعد بن عبيدة عن البراء بن عازب رضي الله عنهما عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: "إذا أقعد المؤمن في قبره أتي ثم شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فذلك قوله يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت." حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة بهذا وزاد يثبت الله الذين آمنوا نزلت في عذاب القبر. يقول الله تعالى في كتابه الكريم ساردا لقصة أحد الأنبياء في سورة يس (21-28) وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ{20} اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُّهْتَدُونَ{21} وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ{22} أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونِ{23} إِنِّي إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ{24} إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ{25} قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ{26} بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ{27} وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ{28}
هذه الآيات تتحدث عن مرسل جاء لنصرة مرسلين آخرين تعرضوا الى اضطهاد قومه فلقي حتفه وتلقته الملائكة بالقول (قيل ادخل الجنة) فقال هذا المرسل متمنيا لو أن قومه علموا بما صار اليه حاله فقال (قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ{26} بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ{27}) وبعد دخول هذا الرسول جنة البرزخ جاء عذاب الله لقومه فقال (وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ{28}) وهو خطاب واضح وسرد صريح لقصة انسان دخل الجنة بعيد وفاته وبعدها انزل على قومه العذاب المهين. يقول الله تعالى في موضع اخر من القران الكريم في سورة المؤمنين (99-101) حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ{99} لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ{100} فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ{101} وهذه الآية تتحدث عن رجل حضره الموت وتوفي وبعدما قبض الله تعالى روحه ورأى امارات عذاب القبر قادمة طلب من الله تعالى ان يرجع للدنيا كي يعمل صالحا، فأجاب الله تعالى بأن هناك برزخ يحول دون رجوعك الى الدنيا وهذا البرزخ سيستمر الى يوم القيامة الى يوم البعث فإذا نفخ في الصور انتهت مرحلة البرزخ وابتدأت القيامة الكبرى. يقول الله تعالى في كتابه الكريم في سورة الأنعام {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} الأنعام 93 اذ تقول الملائكة للظالمين وهم في غمرات الموت اليوم (وهو مطلق الزمن) تجزون عذاب الهون وهذه الآية تتحدث عن لحظات الموت.
يقول الله تعالى في كتابه الكريم: {وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} الأنعام 27 وشاهد الاية تتحدث عن قول الكفار يا ليتنا نُرد، أي ان الدنيا ما زالت قائمة ولم تقم الساعة الكبرى فيتمنى الكافر ان يُرد إليها ولكن الله تعالى لا يُرده لأنه من مات لا يرجع لقوله تعالى {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} الزمر 42 فمن يتوفاه الله تعالى لا يرده الى الحياة أبدا ويستمر الكافر يتذوق عذاب القبر يقول الله تعالى في سورة غافر عن آل فرعون بأنهم يعرضون على النار غدوا وعشيا ومن ثم سيدخلون جهنم يوم البعث وهنا العرض من خلال هذه الآية فانه يتم قبل يوم القيامة أي في عالم البرزخ بعد الموت حيث يقول الله تعالى (غافر 44-46) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ{45} النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ{46} يقول الله تعالى }وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ }التوبة101 وهناك آيات أخرى تثبت وجود عذاب ونعيم قبل يوم القيامة، ولكن سنكتفي بما أوردناه الآن واننتقل لتوضيح آية يستدل بها المنكرون على الآ وجود لحياة بعد الموت وقبل يوم القيامة اي (في عالم البرزخ) وهي: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ }يس52 ويقول صاحب معجم صحاح اللغة ان من أَرْقَدَ بالمكان: أقام به.
أن المنكرين لهذه النصوص ولتفاسيرها يرتكزون على حجج لا بد من أن نتفهمها، إذ ان أصحاب المدرسة التقليدية يعتنقون مذهبا للعذاب على انه يقع للجسد المادي وإن هذا الجسد نفسه سيُبعث يوم القيامة وعلى ان العذاب في عالم البرزخ عذاب معنوي في حين ان هناك الكثير من الأحاديث التي تفيد بوقوع العذاب على أجزاء من الجسم كالرأس والعضلات وغيرها. اما المدرسة القرانية تنكر وجود عذاب القبر بسبب الحرفية السقيمة التي أشرنا إليها في فهم النصوص المتعلقة بعالم الآخرة وهو ما أدخل المدرستين في نزاع كبير. ان الانسان مع روحه لا يستطيع ان يعيش باستقلال عن الجسد البتة، وترى الروح تتأثر لو ان الجسد اصابه عطل أو مرض، وان الروح تفارق الجسد ان تعرض للأضرار، و مما اختلط على الناس هو فهم العلاقة بين هذين الإثنين، فالناس تظن ان الروح منفصلة عن الجسد وان وجودها يختلف عن وجود الجسم وانها تحل بداخله، غير ان المتابع للأحاديث النبوية ومن قبلها الآيات القرآنية يستدل على ان الروح هو جوهر لطيف نشئ في الجسم وتولد منه ومرتبط به وان حل بمُركب الروح اي الجسد أي عطل تتأثر به الروح مباشرة وان تعطل الجسد غابت الروح عنه ومات وماتت، فالله تعالى لم يذكر في كتابه ان الروح حلت في الجسد بعد ان تكون او بعد ان بلغت مرحلة ما، بل قال: }هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} غافر 67وتلاحظون في هذه الآية سرد توصيفي لمراحل نمو الانسان الذي تكرر في مواضع عدة في القرآن الكريم، ومما اختلط على الناس قوله تعالى في اكثر من موضع عن نفخ الروح فظن الناس ان الروح في تلك الايات هو الذات الانسانية ، ولكن المتبصر في كتابه عِزّ وَجَل يعلم ان نفخ الروح لا يتعلق البتة بخلق الانسان انما يتعلق بالأنبياء وبعثتهم، أي نزول الوحي و بلوغ مرتبة عالية من الروحانية، حيث يقولالله تعالى : 17وقال عن سيدنا آدم عَلَيه السّلام}فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} الحجر9 من بعد هذه المقدمة الطويلة نكتشف ان الروح لا تحل بالإنسان كما يتوهم البعض، وهو كما اشارت اليه آيات خلق الانسان في القرآن الكريم، غير ان ما يُفهم من الاحاديث النبوية التي اشارت الى نفخ الروح في الجنين بعد مرور اربعة اشهر من تكوينه لا بد ان يأخذ ضمن التوصيف القرآني اعلاه لا ان يحيد عنه، فالروح تنشأ من خلال نشأة جسد الإنسان وهي جوهر لطيف او نور مكنون في نطفة الانسان يتجلى في نفسه في مراحل النطفية والدنيوية وما بعدها، ويكتفي ان نشير الى ان نطف الانسان وباعتراف العلماء انها نطف تكون حية وميتة وبالتالي فان الروح في الانسان توجد في مرحلة النطفة كنور مكنون فيه ينتقل معه عندما يتطور الى جنين ومن ثم الى طفل ومن ثم الى رجل فشيخ ومن ثم الى النشأة الأخرى ومما تقدم نستدل على ان الروح لا تستطيع ان تستقل بنفسها بل لا بد لها من جسد تقبع فيه وتنير ظلماته. وان ما ورد في الاحاديث فعلى الأغلب له فهم خاص حسب سياقه، ولا يجب ان نأخذ بما يناقض صريح آيات القرآن الكريم.
60 }يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} آل عمران 106 }يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} الحديد 12 {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ} الأنعام 31 ان كل هذه الآيات وغيرها تتحدث عن تحول الأعمال التي نعملها في الدنيا الى تمثُلات عينية في الاخرة ابتداءً من عالم البرزخ باستمرار ليوم القيامة، حيث يقول الله تعالى في كتابه الكريم عن تمييز الكافرين من المؤمنين في سورة عبس: وجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ{38} ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ{39} وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ{40} تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ{41} أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ{42} ونحن نعرف ان وجوه المؤمنين والكافرين في هذه الدنيا غير متمايزة ولكنها في الاخرة ستختلف حتى يتبين المؤمن من الكافر من خلال علامات واضحة، ويقول الله تعالى {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} الرحمن 41 لذا من خلال تلك العلامات والسِّيم سيستطيع أصحاب الأعراف التمييز بين اهل الايمان واهل الكفر، فيقول الله تعالى في محكم كتابه الكريم: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} الأعراف 46 ولو كان الحشر في جسد الدنيا ما استطاع اي أحد تمييز المؤمن من الكافر البتة.
وقد ورد في الحديث الشريف قول النبي الكريم صَلَّى اللَّه عَلَيه وَسَلَّم تماما حال المؤمن في الآخرة كمثال الجنين والوليد فالمؤمن يقوم بالعبادات والعمل الصالح ويكابد نفسه ويصابر على الشقاء والابتلاءات، لكن في حياته الأخرى سيُكشف عنه الغطاء وسيشعر بتلك العبادات والتضحيات بلذة وطاقة جديدة، وسيكون ايمانه جنته وسيمتثِل له كأشجار ترويها المياه، والماء هو اعماله الصالحة ولذا سيتلذذ المؤمن بعبادته في الاخرة وستكون له لذة كالجنس والطعام في الدنيا بل هي اكبر وأبرز يقول الله تعالى: 1 - {مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ} محمد 35 أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء{24} تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ{25} وهو ما اشار اليه الله تعالى في كتابه الكريم في قوله }وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }البقرة25
وهي جنة في الدنيا وجنة في الاخرة {وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ }إبراهيم 26 وخلاصة القول في هذا الامر ان الانسان كما كان له طعام وشراب وهو في مرحلة النطفة وفي مرحلة الجنينية وفي مرحلة الحياة الدنيا سيكون له ايضا طعام وشراب في العالم الاخروي وطعامه وشرابه هو ايمانه وعباداته وعمله الصالح حيث يقول الله تعالى (وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) ويبقى السؤال الأهم هل ان مرحلة البرزخ مرحلة جديدة على الانسان؟
|