الطائفية هي سلوك لاعقلاني مدمّر، لماذا؟ هل ثمة مخارج للخلاص؟ (القسم الثاني) |
موجز: تطرقنا في القسم الأول من هذا المقال الى توصيف ظاهرة الطائفية في العراق، كما أشرنا الى القومانية الأثنية التي توازيها وتشابهها من حيث النتائج، وحاولنا الإستناد الى شهادات التأريخ الإنساني وعبره الماضية والقائمة اليوم، للتبصير بالتداعيات الخطيرة لهذه الظاهرة، ولبيان دورها ليس فقط في إشاعة الكراهيات والعزل والفصل بين الناس وما قد تتمخض عنه من صراعات عنيفة، وربما مجازر، وما قد تفضي إليه من تفتت وتقسيم، ليس فقط للمجتمع، بل للجغرافية وللموارد الإقتصادية، مما يقود الى الضياع والهدر والتخلف في الإداء الإقتصادي، والتورط في نزاعات على الحدود والمسارب وعلى توزيع الموارد الطبيعية، فضلا عن توليد التشويه الكامل في بنية الإقتصاد الكلي؛ وهذه كلها ستكون عوامل حاملة للبؤس، ومبددة لمستقبل ضامن لحياة الأجيال القادمة. ثم بحثنا، بإيجاز، خلفية نشؤ أحزاب مغلقة، قامت على أسس دينية/ مذهبية، واحزاب أخرى تقوم على القومانية العرقية أو الأثنية، وكيف أن هذه الأحزاب تعاونت مع المحتلين بعد سقوط النظام السابق، ومن ثم تبؤت العملية السياسية، فأقامت حكومات متحاصصة وليست متشاركة في إدارة الحكم، فالشيعة، باغلبية برلمانية، شكلوا الحكومة، أي تولوا رئاسة مجلس الوزراء، بينما السنة ترأسوا مجلس النواب، والكرد نالوا رئاسة الجمهورية، وذلك خلال الدورتين الإنتخابيتين الماضيتين. وبهذه التركيبة الطائفية والقومانية المتعارضة مع وحدة الشعب العراقي، والمتناقضة مع مبادئ المساواة والتكافؤ الديمقراطية، تعذر وجود حكومة قادرة على تنفيذ برامجها أو وظائفها، بل هي إنساقت الى الإحتراب مع الشركاء، من جهة، والى الإستنزاف، من جهة ثانية، نظرا لتفشي الإرهاب والفساد والهدر وعدم الكفاءة، بغض النظر عن حسن النية لدى بعض القادة. وسنحاول في هذا القسم من المقال أن نفتش عن مخارج للخلاص من هذه الظاهرة التي تنبع خطورتها من تسييسها، وذلك بطرق باب العقلانية التي تنهل حصافتها من معين الفضيلة الإنسانية، كيفما جرى التعبير عنها في الأديان والعلوم. أولا، لابد أن نبيّن، إبتداءا، بأن قضايا الإيمان الديني والإنتساب الأثني هي خصوصيات تتعلق أما بالقناعات الوجدانية والفكرية أو بالإنتساب أو الإكتساب بالولادة، فهي تمثل خيارات وهويات خاصة بالأفراد والمجموعات البشرية. وفي المجتمعات الإنسانية الحرة والديمقراطية يحمي الدستور هذه الخصوصيات ولا يقيدها، بل يحميها دون أن يميزها أو يسيّدها على غيرها. وفي مجتمع تتعدد فيه الديانات والمذاهب والأثنيات، تقوم خصوصية عامة تشمل جميع السكان دون تفريق، هي خصوصية المواطنة والإنتماء الى وطن واحد، بمقابل خصوصيات أو هويات خاصة فرعية لا تحول دون تظافر وتكامل جهود الجميع، لتحقيق أقصى مصالح العيش المشترك، دونما تمييز او إقصاء لطائفة أو لإثنية أو لأية شريحة لها خصوصيتها. هذا هو الموقف العقلاني لإقامة جسور وروابط الوحدة الوطنية الإنسانية، قبل كل شيء. فهل يعي عموم الناس هذا الأمر بهذا المعنى الرشيد؟ بل، هي يعية القادة السياسيون، ممن يقودون العملية السياسية اليوم في العراق؟ قد يعوه، لكن مصالحهم السلطوية والنفعية لا تريد لهذا الفهم أن يسود بين الناس، ذلك لإن كثير منهم يعتاش على تمزيق البلاد لتحقيق المنافع والمآرب الشخصية و/ أوالمسيّرة من قبل قوى أجنبية. أن الوعي بحقيقة الإنتماء الوطني، كخصوصية تعلو على كل الخصوصيات الفرعية، هو القوة الكامنة التي قد تكتسح كل القوى المتاجرة بالإنقسام الطائفي والأثني. فالمهمة الأولى اليوم هي لتعميق ونشر هذا الوعي بكل الوسائل المتاحة. ثانيا، تسود الثقافة الغيبية، عادة، في المجتمعات المتأخرة في مضمار النمو والتنمية والتصنيع، وتلعب الإنتماءآت الدينية والمذهبية والأثنية أدوارها في تشكيل علاقات الناس بين بعضهم البعض. كما قد نجد فيها علاقات تقوم على الولاء العشائري لإبناء العشيرة ولشيخها أيضا. وبسبب هشاشة التركيب الطبقي الإنتاجي، فليس لدينا في العراق طبقة رأسمالية ذات وزن مؤثر، وبالتالي ليس لدينا طبقة عاملة صناعية بوزن مؤثر أيضا؛ إذ مع تقدم مرحلة التصنيع، عادةَ ما يقوم صراعٌ بين الطبقة الرأسمالية والطبقة العاملة على أساس المصالح المادية وعلى مقدار مساهمة القوة العاملة الصناعية في تحقيق فائض القيمة المنتجة؛ وفي هذه الحالة يتوّحد العمال ليس على أساس خصوصياتهم الدينية أو المذهبية، إنما على أساس مصالحهم وحقوقهم الإنتاجية، (الطبقية)، بغض النظر عن الهويات الفرعية. ولكن تركيبة القوى العاملة في العراق لاتزال غير ناضجة، فهي متوزعة بين الإنتاج الزراعي الأولي، والإنتاج الخدمي الشخصي، وخدمات الإدارات الحكومية العامة والمحلية، (أكبر نسبها تتوزع في الأجهزة الحكومية والجيش والشرطة والأمن). أما النسب الأقل المتبقية من قوة العمل، فتتوزع على النشاطات الإنتاجية الصناعية والإستخراجية وخدمات التجارة والبنوك والنقل. كما يشكل العاطلون عن العمل اليوم، (وبعد مرور عقد من الزمن على حكم الإسلامويين المتحاصصين من الشيعة والسنة)، أكثر من ربع حجم القوة العاملة كلها. وعلى حافة هذه الطبقات، ثمة شريحة من الطبقة المتوسطة، وما دون، اضحت تشكل ما يمكن تسميتها بالطبقة الرثة، وهي تشمل الوسطاء والوافدين للعمل السياسي الطائفي ومقتنصي الفرص، ممن ركبوا ظهر الأجهزة الحكومية، لتسخير مواقعهم للإختلاس وللحصول على المناصب وللتوسط في المقاولات، بالمشاركة مع قطط طفيلية من المناقصين والمقاولين. هنا صار الفساد يتجلى بأشد أشكاله؛ ولكن المحاباة الطائفية تحول دون كشفهم، بل، ربما، للتستر عليهم. أزاء هذا الواقع الإجتماعي الطبقي، إن صحت التسمية، نجد أن السواد الأعظم من العاطلين هم من الشيعة أكثر منه من السنة، ونجد أن ثلث الأسر العراقية، ( أكثرها من الشيعة)، أضحت تعيش دون خط الفقر! وهنا فقط هنا يجب التوقف والتساؤل، هل الإنتماءىت الطائفية حلّت مشكلة الفقر والبؤس لدى الطوائف المتناحرة؟ وهل فرّق الفقر بين سني وشيعي؟ فمصلحة الفقراء المشتركة، اليوم، تدعوا للخلاص من حكومات طائفية، محاطة بطبقة سياسية فاسدة وغير كفؤة، تديم فقرهم، وإن إدعائها الولاية على الطوائف التي يتحدثون بإسمها هو خداع وتضليل. فمتى ما وعى الناس، وخصوصا الفقراء والعاطلون والمستلبون من كل الطوائف والأثنيات ذلك، سوف يكفرون بالطائفية، وسوف ينادون بحكومة مدنية لخدمة كل الشعب العراقي بدون تمييز. وهنا سنجد أن للوعي الثاقب دور مهم في كشف الطائفية ومن ثم إزاحتها. ثالثا، أما المخرج العملي للمدى المنظور، فهو مخرج سياسي إنتخابي. لقد كشفت تجربة عقد من الزمن بأن الأحزاب الإسلاموية، سواء منها من ترأس الحكومة، او شكل الشريك فيها والمعارض لها في آن، (وهذا ما يمثل تناقض غريب؛ وهو أن تكون مع وضد في آن!)، لم تفلح في توحيد الشعب العراقي، ولم تحقق إنجازات تنموية ملموسة، وقد أشرنا في القسم الأول من هذا المقال الى تقهقر الأوضاع الإقتصادية، المادية والخدمية و تفشي الفقر والتخلف وعدم الإستقرار، وفوق كل هذا إزداد إنقسام الشعب، عموديا وأفقيا؛ طائفيا وإقتصاديا وأثنيا. وبما أن العملية السياسية، المفروض أن تكون راسية على نظام ديمقراطي تعددي، ويتيح تناوب الأدوار سلميا، هي، في الواقع، تشكل خيارا ومنجزا تأريخيا، رغم ما شابها من فشل خلال العقد المنصرم من الزمان. ولابد، الأن، من العمل الإيجابي لإنقاذ مسيرتها من أجل ترصين النظام الديمقراطي، بإعتباره نظام يقوم على المواطنة الموّحدة لإبناء الشعب العراقي. وفي ضؤ التطور الجاري على الساحة السياسية اليوم في العراق، فقد تداعى مثقفون وقطاعات واسعة من الناس من كل الأطياف والطبقات الى المناداة بالنظام الديمقراطي العابر للطوائف، حيث يتم إحترام الأديان والمذاهب، وحيث يكون شأنها من واجبات المسجد والمؤسسات الدينية والمذهبية، وليس في خوض السياسة والتورط في تشكيل الحكومات، وذلك إحتراما للدين، وحرصا على أن يكون من يتقدم للعمل السياسي هو من سيخدم العراق كله وليس طائفة محددة منه، وأن يتبؤ المناصب الفنية الأكفاء والمؤهلون، بغض النظر عن هوياتهم الفرعية، الدينية والأثنية. وفي خضم هذا المخاض وُلد التيار الديمقراطي في العراق الذي ضم عددا قليلا من الأحزاب المعروفه تأريخيا بإلتزامها بالنهج الديمقراطي العلماني، ومن شخصيات ومجموعات ديمقراطية، منادية بالديمقراطية العابرة للطائفية والعرقية، ديمقراطية لكل العراقيين. ولايزال التيار الديمقراطي يلعب دوره التنويري والوطني، بل وبات يشكل خيارا لإبناء الشعب العراقي في الإنتخابات القادمة، لاسيما بعد ان يوسّع تحالفاته الإنتخابية مع قوى وجماعات ديمقراطية، تطرح نفسها اليوم، كمجموعات سياسية، عابرة للطائفية والطوائف . ويبدو أن أملا جديدا يطلّ الآن علينا للتخلص من هيمنة الأحزاب الإسلاموية الطائفية، أو، في الأقل، بالتخفيف من هيمنتها في الإنتخابات العامة القادمة في العام لقادم. وعلى ذلك، يصح لنا أن نخاطب أهلنا في العراق من كل الطوائف والأعراق للتصويت للتيار الديمقراطي. اما بخصوص المسالة الكردية، فالحزبان الرئيسان المناديان بحق الكرد في تقرير المصير، فلا خلاف معهما في ذلك، فهذا هو حق إنساني تقره النظم الديمقراطية، بشرط أن يتم ذلك سلميا، وعلى وفق جغرافية تحمي حقوق كل ىالأطراف، وخصوصا الأثنيات غير الكردية، كالتركمان والشبك والزيدية، وغيرهم من معتنقي ديانات غير الإسلامية، فمن حقهم تماما تقرير مصيرهم وإنتمائهم الوطني. رابعا، وبغض النظر عن هوية السياسيين أو الحزب أو الإئتلاف السياسي الذي قد يرشح نفسه للإنتخابات العامة، فالمعيار العقلاني والحصيف للمنتخبين من ابناء الشعب العراقي، هو عدم الإهتمام إطلاقا بالهويات الفرعية، الدينية والأثنية، أو غير ذلك، للمرشح، سواء كان فردا أو حزبا أو إئتلافا أو تيارا، بل التركيز على ما يتقدم به ذلك المرشح من برنامج إنتخابي، حيث يبين، مفصلا، بنود برنامجه وأولوياته، وما هي الغايات التي يود تحقيقها إذا ما تولى مسؤولية الحكومة. البرنامج هو المعيار الأول، ليصح بعد ذلك المحاسبة، بموجبه، على قدر الإنجاز. أما المعايير الأخرى لإختيار المرشح، كشخص، هي أن يتمتع بالخبرة والتأهل والكفاءة والنزاهة والتأريخ النظيف والوطني، فضلا عن الصدق والأمانة. ولربما يمكن الإستدلال عليه من تأريخه وسيرته الذاتية. وطبعا، لا يمكن أن نفرض أن كل الناس ولا حتى أغلب الناس، ستحاول التعرف على هذه الخصائص بالمرشحين، ولكن ربما يتم التركيز على خصوصيات القادة المهمين والذين قد يتولون المناصب القيادية، إذا ما فازوا في الإنتخابات. وهنا ستلعب الصحافة الحرة والإعلام دورا بناءا في توعية الناس وتنويرهم، بدلا عن تضليلهم وخداعهم. د. كامل العضاض 2/3/2013 |