اقنعونا ان معدة العراقي تستحق كل شيء، فأكّلونا خبزا اسود ، واجبرونا على (وحش الطاوة) في جميع الوجبات ، فيما اشتغل الاعلام في تعداد فوائد (التشريبايه) او "محروك اصبعه"، واذا مالت النفس الى الحلويات ، صنعنا "بقلاوة مال فكر" او خلطنا "دبس وراشي" ، المهم ان البدائل كانت ولا تزال حاضرة، ولا توجد في قواميسنا الشعبية سعرات حرارية ولا فوائد غذائية، اذ المختصر المقيد لدى اغلب العراقيين من الطبقات المسحوقة والمحرومة في تحديد قيمة ما يأكلون انه مجرد "حشو بطن" ، والسلام.
وبرغم ان سنوات الحصار كانت قاسية ، الا نظام التموين كان كفوءاً، حيث كانت كل اسرة تحصل على حصتها كاملة غير منقوصة وفي الموعد المحدد، وتحسّن العمل بهذا النظام بشكل افضل بعد اتفاقية مذكرة التفاهم ، المعروفة بـ"النفط مقابل الغذاء والدواء"، وما يهمنا هنا الدواء ، حيث كانت حصة الأدوية لمرضى القلب ، والضغط ، والسكري، والامراض المزمنة الأخرى، متوفرة في العيادات الشعبية ، وكان صاحب البطاقة الدوائية يحصل على ادويته كاملة ومن احسن المناشىء، ولا تستغرب ان تجد لدى المريض فائضا منها، يوظفها لأغراض أخرى، كحبوب السكرين، ومن طريف ما يذكر هنا ان الاصحاء اخذوا يشاركون مرضى السكري في استخدام محلي "السكرين" الذي كان يوزع ضمن الحصة الدوائية، في الشاي والعصائر التي يصنعونها في بيوتهم للتقليل من استخدام السكر المعروف، بسبب تأثره بالحصار كماً وسعراً.
ما نريد ان نقوله ان العراقي استخدم البدائل المتوفرة من اجل ديمومة الحياة ، لكن ليس الى حد ان يتناول ادوية بديلة او غير التي وصفت له طبياً.
هذا ما يجري اليوم ، ولمن لديه بطاقة دوائية للأمراض المزمنة، يعي ما اقول ، حيث لا تفاجأ ان تقطع "الباص" بـ"3 الاف دينار"، للحصول على الدواء، فيعطيك الصيدلاني في العيادة الشعبية دواء آخر غير الذي تتناوله ، وعندما تقول له:"هذا ليس دوائي" فيجيبك ببرود: "هذا الموجود" وطبعا هذا الموجود ليس الدواء نفسه، ولا نقصد هنا اختلاف الشركة والمنشأ، فالمرضى الذين يتعاملون مع العيادات الشعبية "لا يدقدقون" بإسم الشركة ولا فعالية الدواء ، المهم ان هذا الدواء من العائلة نفسها، سواء أكان اسمه "دايوفان" او "دايوستار" أو "فالسارت" ، أو "فالسارتان"، لكن ان يعطي دواء آخر من عائلة أخرى كا"لورستان"، فهذا يعني إعطاء المريض وصفة أخرى ، لانقل إنها قد لا تنفعه، بل ربما تضره ، او قد تعرضه الى مضاعفات، الغريب ان طبيب العيادة الشعبية يحاول ان يقنعك باية وسيلة ، المهم يدفعك من امامه، غير مكترث بالنتائج التي قد يسببها تناول دواء غير الدواء المخصص لك، فيما يبرئ الصيدلاني ساحته بتحميل المسؤولية لوزارة الصحة فهي من جهزت صيدلته بهذه الادوية وعليه ان يتصرف ويقدم النصائح للمراجع بتجربة هذه البدائل، فإما تصيب، واما تخيب، غير أن بعضهم تصيبه الريبة من كلام الطبيب أو الصيدلاني، فيقرر أن يذهب الى طبيبه الخاص او الى الصيدلاني الاهلي الذي يثق به، للتأكيد من سلامة الدواء المصروف له، لكنه يتفاجأ بتحذير من تناوله بعد التأكيد من ان مكونات هذا الدواء تختلف عن مكونات الدواء الذي يستخدمه بناء على وصفة طبية، وازاء حالة الحيرة التي تنتابه ، تبدو صورة العيادة الشعبية قاتمة، كونها لا تحرص على وضعه الصحي بالمرة، بل هناك من تزداد عنده حالة الشك الى الاتهام بأن طبيب العيادة الشعبية كاد يقتله بذلك الدواء ، مشددا على ان مرضه لا يتحمل الخيارات المتاحة ، ولا المزاح في تجريب الأدوية.
وهنا يطرح تساؤل مهم ، وهو من وراء اخفاء ادوية الامراض المزمنة عن المرضى، الذين اجبرتهم ظروفهم المادية على إعتماد البطاقة الدوائية في علاج أمراضهم المزمنة ؟.. اذ من غير المنطق ان تستورد وزارة الصحة ادوية وتترك أخرى ، ثم تطلب من عياداتها الشعبية بأن يجربها المرضى.
هناك خلل، او فساد بشكل أدق، ضيّع الفائدة من نظام البطاقة الدوائية ، مثلما ضيعه من نظام البطاقة التموينية.. لكن السؤال : من المسؤول عن ذلك ؟.. وزارة الصحة.. ام العيادات؟.
لا شك ، هناك تسريب وتهريب للادوية الاصلية، على حساب صحة المريض المزمن، ربما يبدأ من الوزراة ، وينتهي الى العيادة الشعبية ، ولا نريد ان نبرئ كل هذه الحلقات، ونقول ان هذه الادوية هي المستوردة ، لأنها تعني ان العذر اكبر من (الصوج) ، والمريض اصبح مهددا بدوائه.
|