أول رجل من الفاو يدير الشؤون البحرية.. بقلم/ كاظم فنجان الحمامي |
العراق تايمز: كتب الخبير البحري كاظم فنجان الحمامي.ز ينتمي بطل حكايتنا هذه المرة إلى الجيل الذي اتخذ من سواحل الفاو منطلقا لأنشطته الهيدروغرافية، فحالفه الحظ في رسم معالم المسالك الملاحية الأمينة من مضيق (هرمز) وحتى (القرنة) حيث اقتران دجلة بالفرات، وينتمي إلى رجال تحملوا أهوال البحر ومزاجه المتقلب. صبروا على بيئته القاسية. أخذوا على عاتقهم تحديد مسارات السفن المترددة على موانئنا. تفننوا في غرس فنارات الاسترشاد في أعماق الممرات الضيقة، فنجحوا في تأثيث قنواتنا الملتوية بالعوامات والإشارات الملاحية، وأبدعوا في نصب نقاط التثليث وعلامات التسوية، فتزينت بها ضفاف شط العرب وخور عبد الله. بطل حكايتنا هذه المرة هو الراحل (طالب جاسم محمد علي عبد الله علي الكنعان التميمي). رجل امتزج عرقه بأطيان الشواطئ الخاوية، وأفنى عمره في متاهات الأغوار السحيقة، وغاص في أوحال الأنهار والجداول الصغيرة، فمشى حافي القدمين بين أحراشها القصبية الكثيفة من أجل يثبت علامات المقاطع الملاحية في أماكنها الصحيح. رجل خنقته رياح (الكوس) المشبعة برطوبة المحيط الهندي، ومزقت جسده ملوحة البحر. لكنه تحدى الصعاب، وصمد بوجه الظروف القاهرة، فترك لنا سفرا خالداً، مفعما بالوفاء والعطاء، معطراً بعبق رائحة البحر، منقوشاً على مسطحاتنا المائية المترامية الأطراف. كان (رحمه الله) من الرواد الذين استخدموا الطرق البدائية في سبر الأعماق، واستعانوا بالأساليب التقليدية في الاستدلال على إحداثيات المواقع، واهتدوا بالحسابات الرياضية المضنية للتغلب على تعقيدات المعضلات الهندسية. لكنهم حققوا نجاحاً منقطع النظير في مسح قيعان الخليج، ثم جالوا في أخاديد دلتا شط العرب، وكانت لهم الريادة في تشخيص ملامح السواحل، والتعرف على الممرات البحرية، ورصد تياراتها المائية وتدوينها على خرائط كنتورية متشابكة بخطوط الطول والعرض، وموضحة بمقاييس الرسم، فتركوا لنا مكتبة عامرة بالخرائط والمخططات والدراسات البحرية والنهرية. ولد (طالب جاسم) في مدينة الفاو عام 1939، في أسرة متعلمة. كانت أمه متخصصة بتدريس علوم القرآن والتلاوة، وكان أبوه موظفاً في قسم التنوير البحري بدرجة (عامل سلسلة). نشأ (طالب) وترعرع في بيت قديم يضم شقيقته وشقيقه، هو أكبرهم. أكمل دراسته الابتدائية في الفاو، ثم واصل دراسته الثانوية في الإعدادية المركزية بالبصرة، فحصل فيها على شهادة الثانوية العامة عام 1956، لكن ظروفه العائلية القاهرة حالت دون التحاقه بالجامعة. ثم أن الأوساط الاجتماعية في الفاو كان لها رأي آخر في إعداد رجال البحر على الطريقة التي توارثوها منذ قديم الزمان. فكان البحر بانتظاره، وكانت السفن الخشبية مدرسته الحقيقية في مواجهة أهوال البحر، فخاض تجاربه الأولى فوق ظهر سفينة من ممتلكات جدته لأمه، والتي عرفها الناس وقتذاك باسم (النوخذة)، وكانوا ينادونها بهذا الاسم، فعمل (طالب) في بداية الأمر على سفن الصيد قبل بلوغه سن الرشد، ثم عمل على السفن التجارية الشراعية، فسافر معها إلى الهند وكراجي قبل التحاقه بالموانئ العراقية للعمل بدرجة (معاون مسّاح بحري)، فرافق سفن الحفر المكلفة بتهذيب القنوات البحرية المؤدية إلى موانئ شط العرب، وعمل معهم في إزالة الأطيان والترسبات الغرينية من قناة الروكا، وانيطت به مسؤولية مراقبة تردي الأعماق المتأثرة بالترسبات الرملية الهائلة، واشترك في تأسيس قواعد أبراج فنارات التطابق، ونجح في تحديد خطوطها الوهمية، وواظب مع زملائه على صيانة قناة (سد كارون) في مواسم الفيضان، و ساعدته خبرته في نشر مقاييس المد والجزر في الأماكن الحساسة، وفي توزيع العوامات الملاحية على امتداد الممرات المخصصة للسفن. كان من الذين شهدوا ولادة نهر (شط البصرة)، ومن الذين ربطوه بخور الزبير. ونفذوا مشاريع صيانة السواحل العراقية، ورصدوا مناسيب المياه في كل المواسم، وكان له قصب السبق في الإبداع والتميز، فنال ارفع الدرجات المهنية في تخصصه. شهدت له الموانئ بحسن الأداء، ودقة البيانات، ورصانة المعلومات. تدرج (طالب) في السلم الوظيفي للفرق الهيدروغرافية والهيدرولوجية، فطبع بصماته في ذاكرة الطين والماء، والتي مازالت آثارها شاخصة في منعطفات شط العرب ومقتربات خور عبد الله. وظلت تلك الآثار حتى يومنا هذا تحكي قصة الكفاح المرير في تعبيد الطرق البحرية فوق مسطحاتنا المائية. تجدها في سيحان والهارثة والدورة والمخراق والواصلية واللباني والصنكر والسراجي والمعقل ورأس البيشة والهاتف والقصبة، وظلت صورتها مرتسمة على ضفاف الشواطئ المزدحمة بغابات النخيل، أو تراها شاخصة فوق رمال أم قصر وخور (السقة) وخور (بحرة) و(وربة). كان (طالب جاسم) من خيرة تلاميذ المبدعين الأوائل. اذكر منهم : مهدي موسى، ومحمد الحبوبي، وحسن محمود، وعبد المجيد محمد حسن، والكسندر فرجيبيان. ويوسف العامر. لكنه تلقى فنون العمل الميداني على يد الراحل (فريد يوسف البسام). ذلك الرجل الحجازي القادم من قلب الصحراء العربية، فأضاف بخبرته المعهودة لمسات جديدة. أسهمت في توسيع آفاق المسوحات المائية في خضم الكثافة المرورية، التي رافقت الحركة الملاحية شمال الخليج العربي. تأهل (طالب جاسم) بجدارة واستحقاق ليصبح عام 1993هو المدير الفني لقسم المسح البحري، فأكمل رحلة الأجداد بخطوات متصلة بجسور الماضي المزدهر. ثم تلاه (عيسى جاسب الطوب). ثم (عبد الرزاق جاسم)، والكابتن مازن خريبط الخيون، والكابتن سمير عبد علي مرزوق. وما أن انتهى عام 1997 حتى أصبح (طالب جاسم) هو المدير التنفيذي لدائرة الشؤون البحرية، والتي كانت تعد من أكبر الدوائر الملاحية في عموم الموانئ العراقية، وتضم أقسام التنوير والتفتيش وتسجيل السفن والمسح البحري والحفر وتعميق الممرات الملاحية والإرشاد البحري، ويشرف على تشغيل أسطول سفن القطر وأسطول سفن الحفر وأسطول السفن المساعدة، وعمليات الإرساء والإقلاع. كان عضواً في مجلس إدارة الموانئ العراقية، وعضواً في مجلس إدارة أكاديمية الخليج العربي للدراسات البحرية، وعضواً في مجلس إدارة الشركة العامة للنقل البري، وعضواً في هيئات صيد الأسماك، وعضواً دائماً في لجان ترسيم الحدود. لم يتوقف طموحه عند حدود معينة، بل تجاوزها نحو توسيع اختصاصه في مجال التشريعات البحرية، فحصل على شهادة البكالوريوس من كلية القانون. كان يعمل ويدرس ليل نهار حتى بعد إحالته إلى التقاعد، فالتحق عام 2002 بشركة (CMA – CGM) للعمل بدرجة خبير في الخط الفرنسي العراقي بنفس النشاط الذي كان يتمتع به عندما كان شاباً يافعاً يواجه تقلبات البحر بعزيمة الرجال الأشداء. كان يعمل من دون كلل ولا ملل، ومن دون أن يلتفت لصحته التي لم تعد تصلح لمواصلة العمل على الإيقاعات الشبابية المفعمة بالحيوية والمتفجرة بالطاقة والنشاط، فمات واقفاُ صباح اليوم السادس عشر من تشرين الثاني من عام 2005. تزوج الكابتن طالب جاسم عام 1967 وله من الأبناء ثلاث بنات وولد واحد هو الكابتن البحري (علي طالب)، الذي يعمل حالياً في تشكيلات خفر السواحل العراقية، أما أكبر بناته فهي المستشارة القانونية (ليلى)، ثم مدرسة اللغة الانجليزية (هدى)، وأخيراً مدققة الحسابات (ندى). أما شقيقه الذي كان يعمل معه في المجال البحري فهو الراحل (عبد الحافظ جاسم). كان طالب جاسم أول رجل من مدينة الفاو يرتقي لمنصب مدير الشؤون البحرية، وأول مسّاح بحري يصل إلى هذا المستوى الإداري والمهني الرفيع، وأول رجل يعمل في شتى المجالات البحرية المتنوعة. رحل عنا ولم يترك وراءه سوى بيته الصغير، الذي منحته له الدولة أسوة بالعاملين في الموانئ، كان رحمه الله جاداً في عمله، ملتزماً بتنفيذ الواجبات المنوطة به على الوجه الأكمل. واكب نهضة الموانئ العراقية منذ بداية الستينيات وحتى بداية الألفية الثالثة، وكان طرفاً فاعلاً في تحقيق منجزاتها الوطنية وقفزاتها النوعية. رحم الله صاحب الفكر النير والعمل الجاد الذي أحبه فمنحه جهده وصحته وكل ما يملك .انه نموذج يستحق أن يحتذي به الآخرون .تغمده الله بواسع رحمته واسكنه فسيح جناته انه سميع مجيب.
|