فجر اليوم نويت أن أنام بعد ساعات من العمل المضني، لكن رسالة من قارئ وردتني أطارت الرقاد من قلبي وروحي وعيني، رسالة كأنها صرخة ملتاع أو صياح فؤاد مكلوم. قالت الرسالة: "مرحباً يا لسان جدتي ومكرود زمانك، شاهدت صورتين على صفحة (كذا) لشاب من اهالي الكاظمية واخته قتلا في الانفجار. اعتدت مشاهدة هذا الشاب على مدار أربع سنوات حيث يستقبلني في باب الاستعلامات وهو يفتش عن سلاح أو أي شيء جارح في حوزتي، لكنه لم يفتش الشارع الذي سلكه أثناء توجهه الى سوق الكاظمية لشراء النيشان لشقيقته". أجبته في الحال:"ما هذه الرسالة المزلزلة، أعطني الصورتين لأراهما فورا". فقال: "آسف، لكنني فقدت أعصابي". حين قرأت الرسالة تجمّد الدم في عروقي وبحثت عن الصورتين حتى وجدتهما. في الأولى، ثمة شاب كأن وجهه شقة القمر، فارع الطول، مبتسمٌ للحياة ومقبل عليها. أما في الثانية، فصبية محجبة لكنها أنيقة وتكاد الابتسامة تنطّ من محياها. إلى جانب الصورتين، ثمة أخرى لجنازتين ملفوفتين بالعلم العراقي يحيطهما شبان حزانى. صفنت وقلت: يا ويل أمكما، أهكذا انتهى مشواركما إلى السوق؟ أقول لكم صدقا؛ حين رأيت الصور، تذكرت نور، قريبتي، التي أنجاها الله العام الماضي من تفجير آخر مروع. كانت في الطريق مع خطيبها لشراء ملابس العرس أيضا، ولكن من الكرادة لا من الكاظمية. تذكرت نور وحيدر، خطيبها الأسمر، وكيف أنهم حملوه لها حسب وصية الطبيب في سدية كي تسمع صوته وهي تصارع أشباح الموت. كانت تهذي باسمه وتقول انه قتل، وكانت ستموت لو أنهم لم يحملوه لها لتسمع صوته. كتبت يومها عن معجزة الحب التي يمكنها الانتصار على الموت. تذكرتهما وأنا أرى الشاب وأخته، ثم طار ذهني لأخي المسكين، ذلك الجندي المكرود الذي اتصل بي قبل أيام من مقتله العام 1988 بالتلفون وقال لي ـ محمد..أكملتم صبغ الغرفة؟ فأجبته ـ كاعد نشتغل بيها. ثم سألته ـ هل نطبع بطاقات العرس أم ننتظرك؟ فقال ـ انتظروني..كم يوم وأنزل باجازة الزواج. كانت تلك آخر عبارة أسمعها منه. جيء به بعد ذلك ملفوفا بالعلم العراقي. ذهب وفي قلبه شيءٌ من لذة العرس ومباهجه. لعله تمنى أن يرى اسمه مطبوعا بحروف بارزة على بطاقة العرس. ربما تخيل حبيبته وهي تجلس بمحاذاته في سيارة "سوبر" بينما أخواته يرقصن ويزغردن مخرجات رؤوسهن من "الكوستر". ربما ضحيتنا الجديدة حلمت الحلم نفسه وهي تغذ خطاها مع شقيقها إلى سوق الكاظمية قبل أن يأتي عزرائيل بناره وشراره إلى المكان. كلاهما حلما بذلك، لكنَّ الإرهابي أبى أن يكملا المشوار ويعودا بعده لبيت المسرات متأبطين "نياشينهم" وبدلات عرسهما. نعم، حين قرأت رسالة قارئي فاضت دمعتي وقلت له ـ شسويت بيه يمعود وآني ناوي أذهب للنوم مستريح البال؟ لماذا جعلت ذاكرتي تتفجر بعصف تلك الصور التي لا تمحى؛ حين جيء بجثة أخي، كان ثمة، مع الجندي المأمور، أغراض كان اشتراها من السليمانية قبيل مقتله بأيام، من بينها سماور رائع لا أدري أين حلّ به الدهر. هل حلم أخي المسكين أن يشرب منه شايا ساخنا في حجرة الزوجية المشتهاة؟ هل نوت الصبية المخطوبة شراء شيء شبيه لغرفتها؟ أسئلة مجنونة لا يمكن أن يجيب عنها سوى الله و"العراريس" القتلى، هؤلاء الذين حطّني قارئي بين جنائزهم فجأة فإذا بهم يصحون معي من رقادهم ثم يبكون على وقع سؤالي: من يتحمل "خطيتكم" أيها المساكين..؟؟
|