عقب الاحتلال الأمريكي وسقوط الصنم، تجمعت في جعبة المستر "بول بريمير" مكونات طبخة غريبة وعسيرة الهضم هي المحاصصة بأنواعها المختلفة وألوانها البراقة، وقد عانى منها شعبنا العراقي كثيرا، وسيظل يعاني إلى أن يتمرد وعيه السياسي والاجتماعي، ويغادر شرنقته التي سجن نفسه فيها، أو بالأحرى سجنه المتنفذون فيها، بتواطؤهم مع هذا "البريمر" ليشيدوا سوية بناء أعوجاً للعملية السياسية على أسس واهية، هي والرمال المتحركة سواء. ان أجندات المحتلين في بناء العملية السياسية على أساس المحاصصة والمكونات الاجتماعية، واضحة تماما، فليس من مصلحتهم التعامل مع حركة سياسية وطنية وأحزاب لها برامج وأهداف وجماهير تطالبهم بتحقيق وعودها وشعاراتها، بل الأسهل لهم والأقل كلفة أن يتعاملوا مع مكونات اجتماعية وهويات فرعية، كالطائفة والقومية والعشيرة، ليكونوا في المطاف الأخير مرجعيتهم الوحيدة، وهذا ما نشهده الان، بالإضافة إلى هدف خبيث آخر لا يقل أهمية، هو إشغال الجميع بالجميع، بمعارك جانبية وصراعات ثانوية، لان ممثلي المحتلين، الذين يسميهم البعض بالمحررون زورا، يعلمون علم اليقين، بأن التقاتل الداخلي، وما يتبعه من تشرذم، وتناسل للانقسامات والأزمات، هو شرط من شروط الطوائف عندما تقع الدولة في مرمى نيرانها وتحت هيمنتها. إما المنتفعون والمتنفذون من السياسيين العراقيين، فلهم طموحاتهم غير المشروعة وأهدافهم الأنانية ايضاً، لذلك تلقفوا فكرة المحاصصة كما لو أنها هدية من السماء، ونفذوها "بأبداع" على ارض الواقع، وظلوا يواصلون سقاية ثمراتها المرة، بمياه الكراهية والبغضاء والتأجيج الطائفي، فأوصلوا البلد إلى هذه النتيجة المأساوية. هل نأتي بجديد في هذا الحديث كله؟ الجواب كلا، مع ذلك لا بد من الانتباه ووضع اليد على ما هو جديد في هذه الممارسة السياسية الكارثية. ان الجميع وبدون استثناء يذم ويشتم المحاصصة جهارا نهارا، بمناسبة وبدونها، لكنهم في السر، وخلف الكواليس، يبذلون المستحيل لتعميقها في المجتمع، وتقطيع آخر ما تبقى من خيوط النسيج الوطني والاجتماعي العراقي، وبالتالي السعي لتأبيدها في الحياة السياسية، وبدلا من تقليص ممارستها، وتخفيف حدتها وصولاً إلى نبذها كما هو متوقع ومأمول، رأينا العكس تماماً، حيث ظهرت مطالبات وتفرعات جديدة، تجسدت في مطالبة المحافظات والمدن العراقية المختلفة، بحصصها في وزارة العبادي، وبالتأكيد سنرى غدا أو بعد غد ان العشائر والتجمعات القبلية ستطالب هي الأخرى بحصصها وحقها في التشكيلة الوزارية. الغريب كل الغرابة أن كل هذا التهالك والاستقتال على المناصب الوزارية والمواقع المهمة في الدولة، يجري في وقت يستمر فيه نزيف الدم على اشدّه، ويتعرض العراق وجوداً وكياناً سياسياً إلى خطر التقسيم والتشرذم، وتحتل عصابات "داعش" وغيرها مساحات واسعة من الأراضي والمدن العراقية، فهل هناك لوحة أكثر سريالية مما نحن فيه؟ وهل هناك ضمائر ماتت وشبعت موتا أكثر مما موجود لدينا؟ وهل أن سياسينا الفطاحل سيغيرون نهجهم المشؤوم هذا في يوم من الأيام؟ سيظل رهاننا على شعبنا وكادحيه بشكل خاص، في تغيير هذه المعادلة البائسة وتحرير العراق من دعاة الزيف والخداع.
|