يواصل الشاعر العراقي عبد الكريم كاصد، من مهجره اللندني رحلته مع الشعر التي لم تتوقف يوماً، منذ أول قصيدة نشرها في مجلة "الآداب" اللبنانية، عندما كان طالباً في جامعة دمشق، في ستينيات القرن الماضي. وعلى خطى الكلمات، أصدر كاصد مجموعته الشعرية الأولى "الحقائب" في 1975، ثم "النقر على أبواب الطفولة"، ومجموعات أخرى . وفي خلال ذلك، أصدر ترجمات في الشعر العالمي على مدى ثلاثين عاماً من التدوين في الشعر والقَص والمقالة. ديوان الأخطاء يتحدث كاصد في مناسبة صدور مجموعة شعرية له بعنوان "ديوان الأخطاء"، ومختارات شعرية مترجمة للشاعر البولوني هربرت زبغنييف، الشهر الماضي، عن الشعر كونه "ليس بمنأى عمّا يجري الآن في واقعٍ أضحى، هو نفسه، مغترباً عن حاضره، في مواضع شتّى، إن لم نقل عن ماضيه الذي يحضر هو أيضاً بأسوأ أشكاله، مصطدماً بالحاضر وقواه العديدة المتشابكة، المتصارعة، اصطداماً مكشوفاً تعبر عنه هذه الحروب الطائفية البغيضة علناً. وهذا ما يجعل مستقبلنا في امتحان ومحنة دائمين، كأنه خارج التاريخ، غير خاضع لضرورةٍ ما أبداً إلاّ إذا نظرنا إليه بمنظور أبعد كثيراً". بل إن كاصد يعتبر الماضي الذي تمثله قوى الظلام والحركات الدينية والسياسية المتطرفة "خارج مسار العصر، وإن كان نتاجه، لذلك سقط بعضها سريعاً كما حدث في مصر وسيسقط بعضها الآخر الذي يعلن حربه ضدّ الجميع أدياناً وطوائف وإثنيات، وكلّ ما يرمز لها من نصب وشعائر وطقوس، ولكن سقوطه لن يكون إلا عبر طريق طويل من الآلام".وحين يتحدث كاصد عن مسارات تجربة الحداثة في الشعر فانه يستدعي الماضي أيضاً.. فيقول ان "الماضي الذي هو ليس هناك لنعود إليه، بل هو هنا. لذا فإن حداثتنا مهددة دوماً، قد يتسرب الماضي إلى حاضرها بأشكال شتّى حتى بمضامينه أحياناً. إنه أشدّ خبثاً من تجليات الحداثة، فهو له تاريخه، وتجربته، وصراعاته، وتحولاته الأشدّ مكراً، لذلك نرى أن حداثتنا هي في اختبار دائم.. اختبار للذات والموضوع، للشكل والمحتوى، للتقدّم والتقهقر، للفكر والعاطفة، للشعر والنثر، في آنٍ واحد".ان في الماضي، كما يرى كاصد ما يتكشف حديثاً (أبو نواس، النفري، أبو تمام) وفي الحداثة ما يتكشف قديماً، فيقول "لذا تبدو التجربة ليست طريقاً مستقيماً، والآفاق ليست بذلك الوضوح الذي يمكن تصوره، لا سيما أن الشاعر لا يعيش حياته حسب، وإنما يعيش أيضاً مسرحاً بشخوصه، وأقنعته، وأوهامه". الشاعر والآداب الأخرى وفي خضم رحلة المنفى والاغتراب لم تنقطع علاقة الشاعر بالآداب الأخرى يوماً، فيقول في هذا الصدد "منذ بداياتي أتتبع مشغوفاً الترجمات إلى اللغة العربية أيّاً كان مصدرها. ولعلّ الآداب الشرقية قد حظيت باهتمام خاص لديّ، أمّا علاقاتي الأدبية بكُتّاب آخرين فهي شيء طبيعيّ، مثلما هو شيء طبيعيّ أن تكون للإنسان علاقاته الاجتماعية في المحيط الذي يعيش فيه. إنها علاقة لا يمكن تحديدها ببناء ما أو تشكيل صوت ثقافي". على ان صورة الشعر العربي في الوقت الحاضر لا تبعث على التفاؤل، بحسب كاصد، ضارباً المثل في واقعة، يتحدث عنها بالقول "التقيت بشاعر إنكليزي، صديق، من أصل هنديّ، اتصل بي بعد صدور مجموعة شعرية لي باللغة الإنكليزية، وتطرقنا إلى الشعر العربي الذي اطلع على شعر مشاهيره ففاجأني بآرائه، فهو لا يتذوّق شعر أشهر شعرائنا الذين التقى ببعضهم في فعاليات ثقافية في الهند ولندن، كما إنه أبدى استغرابه لغياب الشكل في شعرهم، وامتلائه بألفاظ معينة كالجرح التي ترد في القصيدة عشرات المرات. وقبل أن يبدي ملاحظته هذه، سألني سؤال استغربت له أول الأمر: هل ترد لفظة جرح في شعرك؟ فأجبته: لا أظن. ثم أردف: إنني لم استخدم هذه اللفظة قطّ في شعري، ولكنني أقرأها كثيراً في القصيدة الواحدة لشعرائكم الذين قرأت لهم". لكن كاصد لا يرى ذلك حكماً نهائياً، أو صائباً بالضرورة، على شعر هو من الاتساع بحيث لا يمكن حصره بشاعر أو شاعرين مهما بلغ هذان من شهرة. ردة ثقافية لكن، ألا يرى الشاعر الذي يطل من جبل الغربة على الحالة الثقافية في بلاد العرب، ردة ثقافية يتحدث الكثير من مجايليه عنها، يقول كاصد "انها ليست ردّة وإنما هي صراع تختفي وراءه مصالح طبقية وصراعات إقليمية ودولية علينا البحث عن أسبابها". ويزيد في القول "هل هي ردّة حقّاً؟. قد يكون ذلك صحيحاً في الظاهر، ولكنّ هناك في الأعماق ثمة شيء آخر.. شيء يحتدم كالتيار الخفيّ الذي يحدّد مسار النهر، لكنّ هذا لا يعني أن الظاهر غير ملتبسٍ، فهو يعيش تناقضاته الأعمق مع جوهره الذي يتقدم ليتخذ أشكالاً أخرى أكثر خبثاً. فلا الحكومات الحالية هي جوهر هذا الواقع، ولا الأفكار السائدة هي جوهرها".
السياسة والشعر لكن، ألا يقود ذلك إلى الإمعان في جدلية العلاقة بين السياسة والشعر؟. يقول كاصد في هذا الشأن "للشعر علاقاته العديدة الغامضة والواضحة بكلّ جوانب الحياة، صغيرها وكبيرها، ومن هنا يأتي غناه وبصيرته معاً، لكنّ الشعر لن تحدّده هذه العلاقات على أهميتها وغناها لأنّ الشعر أوسع منها، يحتويها جميعاً، ويسمو عليها باحتوائه لها وتجاوزه لها أيضاً". ان تجربة كاصد في الترجمة ومعايشته لحركتها تشير إلى مستويين يتحدث عنها الشاعر، الفردي والعام، فيقول "إذا ما تكلمنا على المستوى الفردي فإن خضوع المترجم لشروط دور النشر وابتزازها غالباً ما يجعل الترجمة جهداً ضائعاً. ولا يختلف الأمر في التعامل مع المؤسسات الرسمية التي لا يخلو أغلبها من مسؤولين يقومون مقام أصحاب دور النشر، إن لم يكونوا أسوأ، بسبب شلليتهم ومصالحهم الخاصة الضيّقة". ويستطرد "أما على المستوى العام فإن المؤسسات الرسمية نفسها لا تشهد انتظاماً في نشاطها، حتى في حالة نجاحها، بسبب عدم الاستقرار الذي تشهده منطقتنا العربية. وباختصار فإن حركة الترجمة لدينا بلا تاريخ، أو وجهة محددة، وما هي إلاّ جهود مبعثرة على أهمية بعضها، مكرورة أحياناً، ومتباعدة، ولا تأخذ بعين الاعتبار ما سبقها من جهود أخرى. مثلما هي تفتقد الدقة في تقييم بعضها بعضاً، مثلما طرحت ذلك في كتابي (غبار الترجمة)، ممّا راكم أخطاءها ولم يساعد على تجاوزها، إن لم نقل إنه ساعد على تكريسها عبر تقييمات عامة غائمة لا تستند إلى أصل أو نسخ أحياناً".
|