الامام الجواد (ع) .. صراع مرير مع الباطل والظلم بحنكة وعبقرية

الامام محمد بن علي الجواد عليه السلام تاسع أنوار الأمامة والهداية الربانية هو أحد المؤسسين لفقه أهل البيت (عليهم السلام) الذي يمثل الإبداع والأصالة وتطور الفكر الرباني.

صور الامام أبو جعفر الثاني محمد بن علي الجواد (ع) أروع الفكر والعلم الاسلامي والذي حوى فضائل الدنيا ومكارمها، وفجر ينابيع الحكمة والعلم في الأرض، فكان المعلّم والرائد للنهضة العلمية، والثقافية في عصره؛ ما دفع العلماء والفقهاء،ورواة الحديث، وطلبة الحكمة والمعارف، للاقبال عليه (ع) لينتهلوا من نمير علومه وآدابه.

الامام الجواد (ع) رغم صغر سنه في تولي زمام الامامة حيث كان عمره الشريف سبع سنوات عندما استشهد والده الامام علي بن موسى الرضا (ع)، اتجه صوب العلم ومقارعة الطغاة والتصدي للانحراف والتزوير الذي كان يعم الامة بين الحين والاخر، فواجهها بمواهبه وعبقرياته، وملكاته العلمية الهائلة ورفع منارة الاسلام، وأرسى أصوله وقواعده، وأستغل مدّة حياته في التدريس ونشر المعارف والآداب الاسلامية، حيث احتفى به جمهور كبير من العلماء والرواة ليأخذوا منه العلوم الاسلامية من علم الكلام والفلسفة، والفقه، والتفسير وغيرها من العلوم الاخرى.

فأحيط الامام ابو جعفر الثاني (ع) بهالة من الحفاوة والتكريم، وقابلته جميع الأوساط بمزيد من الاكبار والتعظيم، فكانت ترى في شخصّيته الشابة امتداداً ذاتياً لآبائه العظام الذين حملوا مشعل الهداية والخير الى الناس؛ ما جعل الخليفة العباسي "المعتصم" التوجه نحو التضييق على الامام (ع) وإرغامه على مغادرة يثرب مدينة جده المصطفى (ص) وفرض الاقامة الجبرية عليه في بغداد.

عاصر الامام محمد الجواد (ع)، خليفتين عباسيين، المأمون والمعتصم، حيث عاش في عهد الاول ظروفاً هادئةً، فيما عانى القساوة والمرارة بكل ما للكلمة من معان مع الثاني الذي دسّ إليه السم عير خديعة زوجته أم الفضل بنت المأمون واستشهاده وهو (ع) في غضارة العمر وريعان الشباب.

المعروف أن المأمون قام خلال حكمه بالتقرب للعلويين خاصة سيدهم الامام علي بن موسى الرضا (عليه السلام)، بسبب الضغط الجماهيري الذي تعرض له النظام العباسي حيث تميز عهده بسلسلة من الثورات والانتفاضات في كافة أرجاء الدولة الاسلامية. وبعد استشهاد الامام الرضا (ع) على يد "المأمون"، أصبح الامام الجواد (ع) الامام الشرعي للرساليين، ما دفع بـ"المأمون" العباسي لمصاهرته كي يغطي على جريمته في قتل والده الامام الرضا (ع)، لكن لماذا وافق الامام الجواد (ع) على الزواج من بنت المأمون العباسي وهو يعلم جيداً انها أبنة قاتل والده (ع)؟

في عهد "المأمون" العباسي تحوَّلت الحركة الرسالية الى حركة تداخلت تحت فرض قوة السلطة مع النظام وأستغلت مظلته دون أن تفقد رسالتها واتجاهها في مقارعة الظلم والتزوير والتحريف ونشر العلوم الربانية كما أنيطت هذه المهمة الالهية الى ائمة أهل البيت عليهم السلام.

فرفض الأئمة المعصومون(ع) ادارة الخلافة أوالمشاركة فيها ، وموقف الامام الرضا (ع) من ولاية العهد حيث قبلها بشرط عدم التدخل في شؤون النظام الدليل على ذلك. وكذا الامام الجواد (ع) عندما قبل الزواج من أبنة "المأمون" ، أصبح صهر الخليفة واستفاد من ذلك لأجل رسالته فماذا يعني أن يصبح شخص صهراً للخليفة؟ .

إن من يدخل البلاط يمكن أن يصير والياً على منطقة، أو حاكماً على بلد، أو قاضي القضاة لا أقل، ولكن الامام محمد الجواد (ع) لم يفعل شيئاً من ذلك، بل أخذ بيد زوجته وذهب الى المدينة وبقي هناك حتى مات "المأمون" العباسي؛ فكسب الامام ابو جعفر (ع) بهذا العمل أمرين:

أولاً: منع المأمون من أن يقوم بعملية اغتياله، وذلك بقبوله الزواج من ابنته.

ثانياً: جعل مخالب السلطة وأنيابها في قفص الحركة الرسالية، وذلك أن المأمون ما كان ليجرؤ بعد ذلك على أن يقوم بالفتك برجالات الحركة ومجموعاتها.

وكان هذا الأسلوب متبعاً في كثير من عصور الأئمة (عليهم السلام)، وخير شاهد على ذلك قصة علي بن يقطين بن موسى البغدادي الذي كان بمثابة مستشار للخليفة المهدي العباسي، ثم صار في رتبة الوزير لهارون الرشيد، وعندما حصل على هذا المنصب وكان اتجاهه رسالياً، جاء إلى الإمام الصادق (عليه السلام) وقال: "يا بن رسول الله أنا صرت عوناً لهذا الطاغية" وأراد أن يستقيل. فطلب منه الامام الصادق (ع) أن يظل في عمله، ويستمر في أداء مهامه الرسالية ويبقى في بلاط "هارون"، وعاود الطلب من الإمام بأن يأذن له بترك السلطة إلاّ أن الإمام لم يأذن له، ولقد كانت أعماله كبيرة بالنسبة للحركة، حتى أن الامام أبا الحسن (ع) قال فيه عندما دخل عليه داود الرقي، في يوم النحر: "ما عرض في قلبي أحد وأنا على الموقف إلاّ علي بن يقطين، فإنه ما زال معي وما فارقني حتى أفضت"( جامع الرواة، العلامة الأردبيلي: ج1 ص609).

كما عاصر الامام الجواد (ع) المعتصم العباسي وهو ابن أمة تركية، فأستفاد الامام (ع) من انشغال "المعتصم" في جمع أخواله وشراءهم من أيدي مواليهم وألبسهم أنواع الديباج والمناطق المذهبة والحلي المذهبة و.. (المسعودي: ج3 ص465)؛ في تغذية الحركات الرسالية التي كانت تضع جنينها للمستقبل، وفي هذا الوقت كانت الثورة التي قام بها محمد بن القاسم بن علي الطالبي تقلق السلطة ولا تدعها تعيش في هدوء وسكينة.

وقد ساهم الامام ابو جعفر الجواد (ع) مدة امامته التي دامت نحو سبعة عشر عاماً في إغناء معالم مدرسة أهل البيت (ع) وحفظ تراثها، حيث امتازت تلك المرحلة بالاعتماد على النص والرواية عن الرسول (ص)؛ وكذلك على الفهم والاستنباط من الكتاب والسنة، استنباطاً ملتزماً دقيقاً، يكشف حقيقة المحتوى العلمي لهذين المصدرين. بالاضافة الى اهتمامها بالعلوم والمعارف العقليَّة التي ساهم الأئمة (ع) وتلامذتهم في إنمائها وإغنائها، حتى غدت حِصناً منيعاً للفكر الإسلامي .

فمارس الامام الجواد (ع) نفس الدور الذي مارسه آباءه الكرام عليهم السلام، حيث اعتمد (ع) على أسلوب التدريس وتعليم التلامذة والعلماء، القادرين على استيعاب علوم الشريعة ومعارفها؛ وحَثَّهم على الكتابة، والتدوين، وحفظ ما يصدر عن أئمة أهل البيت (ع)، وأمرهم بالتأليف، والتصنيف، ونشر ما يحفظون، لبيان علوم الشريعة الحقيقة، وتعليم المسلمين وتفقيههم، أو للرد على الأفكار المنحرفة، والفهم الخاطىء، الذي وقع فيه الكثيرون .

وهكذا صار حول الامام محمد الجواد (ع) تلامذة ورُواة، ينقلون ويروُون ويكتبون حيث الشيخ الطوسي (رضوان الله عليه) نحو مائة من الثقات، ومنهم امرأتان، كلّهم من تلامذة الامام (ع) ورُوَاته، والذين تتلمذوا على يديه المباركتين .

فصنَّفوا في مختلف العلوم والمعارف الإسلامية، ومنهم :

1 - أحمد بن محمد بن خالد البرقي : صنّف كتباً كثيرة ، بَلَغت أكثر من تسعين كتاباً .

2 - علي بن مهزيار الأهوازي : له أكثر من ثلاثة وثلاثين كتاباً .

3 - صفوان بن يحيى : له كتب كثيرة ، وله مسائل عن الإمام الكاظم (ع) .

4 - أحمد بن محمد بن أبي نصر : كان عظيم المنزلة ، له كتاب (الجامع) ، وكتاب (النوادر) .

إن أحسن الأوقات كانت في عهد الامام محمد الجواد (ع)، وربما لذلك جاء في الحديث المأثور عن ابن أسباط وعبّاد بن إسماعيل: أنا لَعند الامام الرضا (ع) بمنى إذ جيء بأبي جعفر(ع) قلنا: هذا المولود المبارك؟ قال: نعم هذا المولود الذي لم يولد في الاسلام أعظم بركة منه (البحار: ج50 ص23).