مِنْ وحي شهادة الإمام محمد الجواد عليه السلام

واختلس العباسيون السلطة من العلويين ، بعد أن أوعزوا إلى دعاتهم في بداية الثورة برفع شعار الدعوة إلى الرضا من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأن يموّهوا بكلّ حذر على الجماهير بأنّ الخلافة لأهل البيت عليهم‌السلام ، ولا نصيب فيها لغيرهم ، وفي سبيل هذه الدعوة الغالية ضحّى المسلمون بأفلاذ أكبادهم ، فقد أيقن المسلمون وآمنوا أنّ لا منقذ لهم ، ولا محرّر لهم من جور الأمويّين وظلمهم سوى أهل البيت حماة العدل ، ودعاة الحقّ في الإسلام .

فتستّر العباسيون تحت هذا الظلال الوارف الذي جمع ما بين العواطف والمشاعر وأخذوا يردّدون الشعارات التي تردّدها الجماهير وهي أن لا حاكم للمسلمين سوى الرضا من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وانطلقت الأمة في مسارها وهي تدكّ حصون الظالمين وتبيد دعاتهم وجيوشهم ، ولمّا تمّ النصر وإذا بالعبّاسيين قد زحفوا إلى دست الحكم واحتلّوا منصب أهل البيت عليهم‌السلام وسرقوا جهود الجماهير ، فخابت شعارات الحقّ ، وخابت آمال المسلمين ، حينما تسلم العباسيون قيادة الأمّة ، فلم تتغير أيّة جهة من معالم السياسة الأمويّة ، فقد عاد الجور ، وانفتح باب الظلم على مصراعيه .

يقول الدكتور أحمد محمود صبحي : ( ولكن ذلك المثل الأعلى للعدالة والمساواة الذي انتظره الناس من العباسيين قد أصبح وهماً من الأوهام ، فشراسة المنصور والرشيد وجشعهم ، وجور أولاد علي بن عيسى وعبثهم بأموال المسلمين يذكّرنا بالحجّاج وهشام ويوسف بن عمر الثقفي ، وعمّ الاستياء أفراد الشعب ، بعد أن استفتح عبد الله المعروف بالسفاح ، وكذلك المنصور بالإسراف في سفك الدماء على نحو لم يعرف من قبل .

لقد كان المأمون أسمى شخصيّة سياسية وعلمية من بين ملوك بني العباس ، فقد استطاع أن يتخلّص من أشدّ الأزمات السياسية التي أحاطت به ، وكادت تقضي على ملكه وسلطانه وكان من ذكائه الخارق أنّه تقرّب إلى العلويين وأتباعهم فأوعز إلى أجهزة الأعلام بنشر فضل الإمام أمير المؤمنين علي عليه‌السلام على جميع الصحابة ، كما ردّ فدكاً إلى العلويّين ، وعهد إلى الإمام الرضا عليه‌السلام بولاية العهد ، وزوّج الإمام الجواد عليه‌السلام من ابنته أمّ الفضل . ولم يصنع ذلك عن إيمان أو إخلاص لأهل البيت عليهم‌السلام وإنّما صنع ذلك ليتعرّف على الحركات السرية والأجهزة السياسية التي كانت تعمل تحت الخفاء للإطاحة بالحكم العباسي وإرجاع الخلافة إلى العلويّين.

لقد استطاع المأمون بعد هذه العمليات التي قام بها أن يتعرّف على الخلايا وما تقوم به من النشاطات السياسية ضدّ الحكم العباسي ، وقد جهد قبله ملوك بني العباس أن يتعرّفوا على ذلك فلم يستطيعوا ولم يهتدوا إلى ذلك بالرغم ممّا بذلوه من مختلف المحاولات التي كان منها التنكيل الشديد بأنصار العلويّين وشيعتهم ، وإنزال أقصى العقوبات بهم ، فإنّهم لم يصلوا إلى أيّة معلومات عنهم ، ولم يكشفوا أي جانب من جوانبهم السياسية.

وبعد وفاة المأمون خلفه المعتصم العباسي ، الذي كان يكره الثقافة ويكره العرب ويقرّب الأتراك كثيراً ، وكان شديد الحقد منذ حياة المأمون على الإمام أبي جعفر محمد الجواد عليه‌السلام على ما ظفر به من الإكبار والتعظيم عند المأمون وعند عامّة المسلمين، فقد تحدّثوا مجمعين عن مواهبه وعبقرياته وهو في سنّه المبكّر عليه السلام ، كما تحدّثوا عن معالي أخلاقه من الحلم وكظمه للغيظ ، وبرّه بالفقراء وإحسانه إلى المحرومين إلى غير ذلك من صفاته التي عجّت بذكرها الأندية والمحافل ، ممّا دفع المعتصم على فرض الإقامة الجبرية عليه في بغداد ثمّ القيام باغتياله مسموماً.

وحيث كان أنْ تحيّرت الشيعة كأشدّ ما تكون الحيرة في شؤون الإمامة بعد وفاة الإمام الرضا عليه‌السلام ، إذ كان عمر الإمام الجواد ست سنين وأشهر، ممّا أدّى إلى اضطراب بعضهم ووقوع النزاع في صفوفهم ، فقد رأى بعضهم أنّ من كان بهذا العمر لا يكون إماماً ، وإنّ الإمامة لابدّ أن يتقلّدها الرجل الكبير ، واجتمع فريق من الشيعة في بيت من بيوتهم ، وكان من بينهم الريّان بن الصلت ، ويونس ، وصوفان بن يحيى ، ومحمد بن حكيم وعبد الرحمن بن الحجّاج ، وخاضوا مسألة الإمامة فجعلوا يبكون فقال لهم يونس : دعوا البكاء حتى يكبر هذا الصبي ـ يعني الإمام الجواد ـ فردّ عليه الريّان بن الصلت قائلاً :

( إن كان أمر من الله جلّ وعلا ، فابن يومين مثل ابن مائة سنة ، وإن لم يكن من عند الله فلو عمّر الواحد من الناس خمسة آلاف سنة ما كان يأتي بمثل ما يأتي به السادة أو بعضه ، وهذا ممّا ينبغي أن ينظر فيه.)

ووفدت إلى يثرب جمهرة من كبار العلماء والفقهاء وقد انتدبوا من قِبل الأوساط الشيعية في بغداد وغيرها من الأمصار وذلك للتعرّف على معرفة الإمام بعد وفاة الإمام الرضا وكان عددهم فيما يقول المؤرّخون ثمانين رجلاً ، ولما انتهوا إلى يثرب قصدوا دار الإمام أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام ففرش لهم بساط أحمر ، وخرج إليهم عبد الله ابن الإمام موسى عليه‌السلام فجلس في صدر المجلس ، مُضفياً على نفسه المرجعيّة للأمّة وانّه الإمام بعد الإمام الرضا عليه‌السلام وقام رجل فنادى بين العلماء : هذا ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فمن أراد السؤال فليسأل ، فقام إليه أحد العلماء فسأله : ما تقول في رجل قال لامرأته : أنت طالق عدد نجوم السماء؟ ...

فأجابه عبد الله بجواب يخالف فقه أهل البيت عليهم‌السلام قائلاً :

طُلِّقت ثلاثاً دون الجوزاء.

وذهل العلماء والفقهاء من هذا الجواب الذي شذّ عمّا قرّره الأئمة الطاهرون من أنّ الطلاق يقع واحداً ، ولا نعلم ـ لِمَ استثنى عبد الله الجوزاء عن بقية الكواكب؟

وانبرى إليه أحد الفقهاء فقال له :

ما تقول في رجل أتى بهيمة؟.

فأجابه على خلاف ما شرع الله قائلاً :

تقطع يده ، ويجلد مائة جلدة  .

وبهت الحاضرون ، وضجّ بعضهم بالبكاء من هذه الفتاوى التي خالفت أحكام الله ، وحاروا في أمرهم وبينما هم في حيرة وذهول إذ فُتِح باب من صدر المجلس ، وخرج موفق ، ثمّ أطل عليهم الإمام أبو جعفر وهو بهيبته التي  تطأطأ لها الجباه ، وقام الفقهاء والعلماء إجلالاً وإكباراً له ، وانبرى شخص فعرّفهم بأنّه الإمام بعد أبيه ، والحجّة الكبرى على المسلمين فقام إليه صاحب السؤال الأوّل فقال له :

ما تقول : فيمن قال : لامرأته أنت طالق عدد نجوم السماء؟  .

فأجابه الإمام عليه‌السلام :

(يا هذا اقرأ كتاب الله تبارك وتعالى : ( الطلاّقُ مرَّتانِ فإمساكٌ بمعروف أو تسريحٌ بإحسانٍ ) وهي في الثالثة )

وبهر الحاضرون من مواهب الإمام (ع) ، وقد أيقنوا أنّهم وصلوا إلى الغاية التي ينشدونها ، ورفع السائل إلى الإمام فتيا عمّهِ في المسألة فالتفت عليه‌السلام إليه قائلاً :

(يا عمّ اتّق الله ، ولا تفتِ وفي الأمة من هو أعلم منك ! )

واطرق عبد الله برأسه إلى الأرض ، ولم يدرِ ماذا يقول ، وقام إلى الإمام صاحب المسألة الثانية فقال له :

ما تقول : فيمن أتى بهيمة ؟..

فقال (ع) : ( يعزّر ، وتحمى ظهر البهيمة ، وتُخرج من البلد لئلاً يبقى على الرجل عارها( .

وعرض السائل على الإمام (ع) فتوى عمّهِ ، فأنكر عليه أشدّ الإنكار وقال له متأثراً :

(لا إله إلا الله ، يا عبد الله إنّه لعظيم عند الله أن تقف غداً بين يدي الله فيقول لك : لِمَ أفتيتَ عبادي بما لا تعلم وفي الأمة من هو أعلم منك ؟!! ) .

وأخذ عبد الله يلتمس له المعاذير قائلاً :

( رأيت أخي الرضا ، وقد أجاب في هذه المسألة بهذا الجواب  .(

فأنكر عليه الإمام (ع) وصاح به :

 ( إنّما سُـئل الرضا عن نبّاش نبش امرأة ففجر بها ، وأخذ ثيابها فأمر بقطعه للسرقة ، وجلده للزنا ، ونفيه للمثلة بالميّت) .

وسأله العلماء والفقهاء عن مسائل كثيرة في مختلف أبواب الفقه ، وقد بلغت فيما يقول المؤرّخون ثلاثين ألف مسألة ، وصرّح بعضهم أنه سئل في مجلس واحد عن ثلاثين ألف مسألة فأجاب عنها عليه‌السلام ، ونحن لا نتصوّر إمكان ذلك في مجلس واحد ، وذلك لعدم سعة الوقت ، والصحيح إنّه سئل عن ثلاثين ألف مسألة في نوب متفرقة أزمنة متعدّدة.

وعلى أي حال فقد أيقن العلماء بإمامته ورجعوا إلى أمصارهم وهم يذيعون إمامة الجواد وينقلون إلى المسلمين سعة علومه ومعارفه وانّه المعجزة الكبرى للإسلام حيث انّه بهذا السنّ ، وقد بلغ من العلوم والمعارف ما لا يحدّ ولا يوصف.

ومن الجدير بالذكر أنَّ بعض الشيعة كانوا قد سألوا الإمام الرضا عليه‌السلام عن مسائل فأجابهم عنها فقصدوا الإمام الجواد بعد وفاة أبيه ، وسألوه عنها ليمتحنوه في ذلك فأجابهم عنها حسب جواب أبيه ، وقد روى أبو خراش النهدي قال : كنت حضرت مجلس الرضا (ع) فأتاه رجل فقال له : جعلت فداك أمّ ولد لي ، وهي صدوق أرضعت جارية لي بلبن ابني أيحرم عليَّ نكاحها؟ فقال عليه‌السلام : لا رضاع بعد فطام ، ثمّ سأله عن الصلاة في الحرمين فقال عليه‌السلام : إن شئت قصرت وإن شئت أتممت ، قال : فحججت بعد ذلك ، فدخلت على أبي جعفر فسألته عن المسائل فأجابني بعين ما أجاب به أبوه .   وعلى أي حال فقد رجعت الشيعة إليه ، وقالت بإمامته ، ولم يشذ أحد منهم ويقول بإمامة غيره.

وليس في دنيا الأنساب نسب أسمى ، ولا أرفع من نسب الإمام أبي جعفر عليه‌السلام ، فهو من صميم الأسرة النبوية التي هي من أجلّ الأسر التي عرفتها الإنسانية في جميع أدوارها ، تلك الأسرة التي أمدّت العالم بعناصر الفضيلة والكمال ، وأضاءت جوانب الحياة بالعلم والإيمان .. أما الأصول الكريمة ، والأرحام المطهرة التي تفرع منها فهي  :ــ

 أبوه الإمام علي الرضا ابن الإمام موسى بن جعفر ابن الإمام محمد الباقر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام ، وهذه هي السلسلة الذهبية التي لو قرأت على الصمّ البكم لبرئوا بإذن الله عز وجل ـ كما يقول المأمون العباسي ـ ويقول الإمام أحمد بن حنبل (رض) : ( لو قرأتُ هذا الإسناد على مجنون لبرئ من جُنّته) .

والسيدة الفاضلة الكريمة أم الإمام محمد الجواد عليه‌السلام كانت من سيدات نساء المسلمين عفة وطهارة ، وفضلاً ويكفيها فخراً وشرفاً أنها ولدت علماً من أعلام العقيدة الإسلامية ، وإماماً من أئمة المسلمين ، ولا يحطّ من شأنها أو يُوهن كرامتها أنها أمَة ، فقد حارب الإسلام هذه الظاهرة واعتبرها من عناصر الحياة الجاهلية التي دمرها ، وقضى على معالمها فقد اعتبر الفضل والتفوّق إنّما هو بالتقوى ، وطاعة الله ولا اعتبار بغير ذلك من الأمور التي تؤوّل إلى التراب.

إن الإسلام ـ بكلّ اعتزاز وفخر ـ ألغى جميع ألوان التمايز العنصري واعتبره من أهمّ عوامل التأخّر والانحطاط في المجتمع لأنّه يفرّق ، ولا يوحد ويشتّت ولا يجمع ، ولذلك فقد سارع أئمة أهل البيت إلى الزواج بالإماء للقضاء على هذه النعرات الخبيثة وإزالة أسباب التفرقة بين المسلمين فقد تزوج الإمام زين العابدين ، وسيد الساجدين ، بأمَة أولدت له الشهيد الخالد ، والثائر العظيم زيداً. وتزوّج الإمام الرضا عليه‌السلام أمَة فأولدت له إماماً من أئمة المسلمين وهو الإمام الجواد عليه‌السلام. لقد كان موقف الأئمة عليهم‌السلام من زواجهم بالإماء هو الردّ الحاسم على أعداء الإسلام الذين جهدوا على التفرقة بين المسلمين والتعالي على الجنس البشري الإنساني .

اختلف الرواة في اسم السيدة اُمّ الإمام الجواد عليه‌السلام ، وهذه بعض الأقوال:

1 ـ اسمها الخيزران ، سمّاها به الإمام الرضا عليه‌السلام ، وكانت تسمى درّة .

2 ـ اسمها سكينة النوبية ، وقيل المريسية ، وقيل : إنها ممن تنتمي إلى ماريّة القبطية زوجة الرسول الأعظم (ص).

3 ـ اسمها ريحانة

4 ـ اسمها سبيكة

وأهملت بعض المصادر اسمها ، واكتفت بالقول إنها أمّ ولد ، وعلى أي حال فإنه ليس من المهم في شيء الوقوف على اسمها ، ومن المؤسف أنّ المصادر التي بأيدينا لم تشر إلى أي جانب من جوانب حياتها.

وأحاط الإمام الرضا عليه‌السلام السيدة الكريمة جاريته بكثير من الرعاية والتكريم ، فقد استشف من وراء الغيب أنها ستلد له ولداً قد اختاره الله للإمامة وللنيابة العامة عن النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو أحد أوصيائه الاثني عشر ، وقد اخبر الإمام الرضا بذلك . وعهد الإمام الرضا عليه‌السلام إلى شقيقته السيدة الجليلة حكيمة بنت الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام بأن تقوم برعاية جاريته ، وتلازمها حتى تلد، وقامت السيدة حكيمة بما طلب منها الإمام الرضا ، ولما شعرت الجارية بالولادة أمر عليه‌السلام شقيقته بأن تحضر مع القابلة لولادتها ، وقام عليه‌السلام فوضع مصباحاً في البيت وظلّ عليه‌السلام يرقب الوليد العظيم .. ولم تمض إلاّ لحظات حتى ولدت جاريته علماً من أعلام الفكر والجهاد في الإسلام.

وغمرت الإمام الرضا عليه‌السلام موجات من الأفراح والسرور بوليده المبارك ، وطفق يقول :

(قد وُلِد لي شبيه موسى بن عمران فالق البحار ، وشبيه عيسى بن مريم ، قدّست أمّ ولدته)

والتفت عليه‌السلام إلى أصحابه فبشّرهم بمولده قائلاً :

)إنّ الله قد وهب لي من يرثني ، ويرث آل داود... )  

وقد عرفهم بأنه الإمام من بعده .. وقد استقبل الإمام الرضا الوليد العظيم بمزيد من الغبطة؛ لأنه المنتظر للقيادة الروحية والزمنية لهذه الأمة .

وأسرع الإمام الرضا عليه‌السلام إلى وليده المبارك فأخذه وأجرى عليه مراسيم الولادة الشرعية ، فأذّن في إذنه اليمنى ، وأقام في اليسرى ، ثمّ وضعه في المهد .

كنّى الإمام الرضا عليه‌السلام ولده الإمام محمد الجواد بأبي جعفر ، وهي ككنية جدّه الإمام محمد الباقر عليه‌السلام ، ويفرق بينهما فيقال : للإمام الباقر أبو جعفر الأول ، وللإمام الجواد أبو جعفر الثاني.

أما ألقابه الكريمة فهي تدل على معالم شخصيته العظيمة ، وسمو ذاته وهي :

1 ـ الجواد : لُقِّب بذلك لكثرة ما أسداه من الخير والبر والإحسان إلى الناس.

2 ـ التقي : لقب بذلك لأنه اتقى الله وأناب إليه ، واعتصم به ، فلم يستجب لأي داع من دواعي الهوى ، فقد امتحنه المأمون بشتّى ألوان المغريات فلم ينخدع ، فأناب إلى الله وآثر طاعته على كل شيء.

3 ـ القانع

4 ـ المرتضى

5 ـ الرضي

6 ـ المختار

7 ـ المتوكل

8 ـ الزكي

9 ـ باب المراد : وقد عُرِف بهذا اللقب عند عامة المسلمين التي آمنت بأنه باب من أبواب الرحمة الإلهيّة التي يلجأ إليها الملهوفون وذوو الحاجة لدفع ما ألّم بهم من مكاره الدهر وفجائع الأيام، لأنَّ الذين قتلوا في سبيل الله أحياءٌ عند ربهم يرزقون .. يرون ويسمعون ويدعون لمن يقصدهم عند الله تعالى ويشفعون .

هذه بعض ألقابه الكريمة ، وكلّ لقب منها يشير إلى إحدى صفاته الرفيعة ، ونزعاته الشريفة التي هي من مواضع الاعتزاز والفخر لهذه الأمة.

أما ملامحه فكانت كملامح آبائه التي تحكي ملامح الأنبياء عليهم‌السلام فكانت أسارير التقوى بادية على وجه الكريم ، وقد وصفته بعض المصادر بأنه كان أبيض معتدل القامة ، ونص بعض المؤرخين على أنه كان شديد السمرة ، وأوردت ذلك رواية شاذة إلاّ أن الأستاذ الإمام الخوئي (قدس) دلل على أنها من الموضوعات .

والمشهور بين المؤرّخين أنّ ولادة الإمام أبي جعفر الجواد عليه‌السلام كانت في 19 من شهر رمضان سنة 195 هـ .

أمّا نقش خاتمه فيدلّ على مدى انقطاعه إلى الله ، فقد كتب عليه ( العزّة لله ) ، لقد آمن بأن العزّة إنما هي لله تعالى وحده خالق الكون وواهب الحياة.

نشأ الإمام محمد الجواد عليه‌السلام في بيت النبوة والإمامة ذلك البيت الذي أعزّ الله به المسلمين وقد ترعرع عليه‌السلام في ظلاله وهو يتلقّى المثُل العليا من أبيه ، وقد أفاض عليه أشعة من روحه العظيمة ، وقد تولى بذاته تربيته ، فكان يصطحبه في حلّه وسفره ، ويطعمه بنفسه .

لقد برهن الإمام أبو جعفر عليه‌السلام على ذلك ، فقد تقلّد الإمامة والزعامة الدينية بعد وفاة أبيه الإمام الرضا عليه‌السلام وكان عمره الشريف ـ فيما أجمع عليه المؤرّخين ـ لا يتجاوز السبع سنين ، وهو دور لا يسمح به لأيٍّ من عامة الناس ـ حسب سيكولوجية الطفل ـ أن يخوض في أي ميدان من ميادين العلوم العقلية ، أو يدخل في عالم المناظرات والبحوث الجدلية ، مع كبار العلماء والمتخصّصين ، فإنّ ذلك غير ممكن لمن كان في سن الطفولة، إلاّ أنّ الإمام الجواد عليه‌السلام وهو بهذا العمر قد خرق العادة . وهذا لن يكون مالم يكن هنالك إمداد غيبي رباني للأئمة من أبناء هذه العترة النبوية الطاهرة .

وملك الإمام محمد الجواد عليه‌السلام في سنه المبكر من الذكاء والعبقرية ما يثير الدهشة ويملك النفس إكباراً وإعجاباً . وقد ذكر المؤرّخون بوادر كثيرة من ذكائه كان من بينها ما يلي :

فقد سأله أشهر علماء عصره عن أعقد المسائل الفلسفية والكلامية والفقهية فأجابهم عنها ، وكان ممّن سأله يحيى بن أكثم قاضي قضاة بغداد الذي انتخبه العباسيون لامتحان الإمام فسأله عن مسألة فقهية ، ففرّع الإمام عليها عدّة فروع ثمّ سأله عن أي فرع أراده منها ، فلم يهتدِ يحيى لذلك ، ولم يستطع أن يتخلّص ممّا هو فيه ، واعترف بعدم قدرته على مجاراة الإمام .

ولقد شغلت مناظراته مع يحيى وغيره من علماء عصره الرأي العام في بغداد وغيرها ، فكانت حديث الأندية والمجالس ، وتحدّث بها الركبان ، ولا تزال تسجّل له الإعجاب على امتداد التاريخ ..

عن الريان بن شبيب قال : لما أراد المأمون أن يزوج ابنته أم الفضل أبا جعفر محمد بن علي عليه السلام بلغ ذلك العباسيين فغلظ عليهم ، واستنكروه منه ، وخافوا أن ينتهي الأمر معه إلى ما انتهى مع الرضا عليه السلام فخاضوا في ذلك واجتمع منهم أهل بيته الأدنون منه ، فقالوا : ننشدك الله يا أمير المؤمنين أن تقيم على هذا الأمر الذي عزمت عليه من تزويج ابن الرضا فانا نخاف أن يخرج به عنا أمر قد ملكناه الله عز وجل وينزع منا عزا قد ألبسناه الله وقد عرفت ما بيننا وبين هؤلاء القوم قديما وحديثا .
وما كان عليه الخلفاء الراشدون قبلك ، من إبعادهم والتصغير بهم ، وقد كنا في وهلة من عملك مع الرضا عليه السلام ما عملت فكفانا الله المهم من ذلك فالله الله أن تردنا إلى غم قد انحسر عنا واصرف رأيك عن ابن الرضا واعدل إلى من تراه من أهل بيتك يصلح لذلك دون غيره فقال لهم المأمون : أما ما بينكم وبين آل أبي طالب فأنتم السبب فيه ، ولو أنصفتم القوم لكانوا أولى بكم ، وأما ما كان يفعله من قبلي بهم ، فقد كان قاطعا للرحم ، وأعوذ بالله من ذلك ، والله ما ندمت على ما كان مني من استخلاف الرضا عليه السلام ولقد سألته أن يقوم بالا مر وأنزعه من نفسي فأبى ، وكان أمر الله قدرا مقدورا .
وأما أبو جعفر محمد بن علي فقد اخترته لتبرزه على كافة أهل الفضل في العلم والفضل ، مع صغر سنه ، والأعجوبة فيه بذلك ، وأنا أرجو أن يظهر للناس ما قد عرفته منه ، فيعلمون أن الرأي ما رأيت فيه .
فقالوا له : إن هذا الفتى وإن راقك منه هديه فانه صبي لا معرفة له ولا فقه فأمهله ليتأدب ثم اصنع ما تراه بعد ذلك .
فقال لهم : ويحكم إني أعرف بهذا الفتى منكم وإن أهل هذا البيت علمهم من الله تعالى ومواده وإلهامه ، لم تزل آباؤه أغنياء في علم الدين والأدب عن الرعايا الناقصة عن حد الكمال ، فان شئتم فامتحنوا أبا جعفر بما يتبين لكم به ما وصفت لكم من حاله .
قالوا : قد رضينا لك يا أمير المؤمنين ولا نفسنا بامتحانه ، فخل بيننا وبينه لننصب من يسأله بحضرتك عن شئ من فقه الشريعة ، فان أصاب في الجواب عنه لم يكن لنا اعتراض في أمره وظهر للخاصة والعامة سديد رأي أمير المؤمنين فيه ، وإن عجز عن ذلك فقد كفينا الخطب في معناه فقال لهم المأمون : شأنكم وذلك متى أردتم .
فخرجوا من عنده واجتمع رأيهم على مسألة يحيى بن أكثم ، وهو يومئذ قاضي الزمان على أن يسأله مسألة لا يعرف الجواب فيها ، ووعدوه بأموال نفيسة على ذلك ، وعادوا إلى المأمون وسألوه أن يختار لهم يوما للاجتماع فأجابهم إلى ذلك فاجتمعوا في اليوم الذي اتفقوا عليه وحضر معهم يحيى بن أكثم وأمر المأمون أن يفرش لأبي جعفر دست ويجعل له فيه مسورتان ففعل ذلك وخرج أبو جعفر وهو يومئذ ابن تسع سنين وأشهر فجلس بين المسورتين وجلس يحيى بن أكثم بين يديه وقام الناس في مراتبهم والمأمون جالس في دست متصل بدست أبي جعفر عليه الصلاة والسلام .

فقال يحيى بن أكثم للمأمون : يأذن لي أمير المؤمنين أن أسأل أبا جعفر عن مسألة ؟ فقال له المأمون : استأذنه في ذلك فأقبل عليه يحيى بن أكثم فقال : أتأذن لي جعلت فداك في مسألة ؟ فقال أبو جعفر عليه السلام : سل إن شئت .
قال يحيى : ما تقول جعلت فداك في محرم قتل صيدا ؟ فقال أبو جعفر عليه السلام : قتله في حل أو حرم عالما كان المحرم أو جاهلا قتله عمدا أو خطأ ، حرا كان المحرم أو عبدا صغيرا كان أو كبيرا ، مبتدئا بالقتل أو معيدا من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها ، من صغار الصيد أم من كبارها مصر أعلى ما فعل أو نادما ، في الليل كان قتله للصيد أم في النهار ، محرما كان بالعمرة إذ قتله أو بالحج كان محرما ؟ .
فتحير يحيى بن أكثم وبان في وجهه العجز والانقطاع وتلجلج حتى عرف جماعة أهل المجلس أمره فقال المأمون : الحمد لله على هذه النعمة والتوفيق لي في الرأي ثم نظر إلى أهل بيته فقال لهم : أعرفتم الآن ما كنتم تنكرونه ؟ ثم أقبل على أبي جعفر عليه السلام فقال له : أتخطب يا أبا جعفر ؟ فقال : نعم يا أمير المؤمنين فقال له المأمون : اخطب لنفسك جعلت فداك قد رضيتك لنفسي وأنا مزوجك أم الفضل ابنتي وإن رغم قوم لذلك .
فقال أبو جعفر عليه السلام : الحمد لله إقرارا بنعمته ، ولا إله إلا الله إخلاصا لوحدانيته وصلى الله على محمد سيد بريته ، والأصفياء من عترته .
أما بعد فقد كان من فضل الله على الأنام ، أن أغناهم بالحلال عن الحرام ، و قال سبحانه : وانكحوا الأيامى منكم والصالحين من عباد كم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم .
ثم إن محمد بن علي بن موسى يخطب أم الفضل بنت عبدالله المأمون ، وقد بذل لها من الصداق مهر جدته فاطمة بنت محمد عليها السلام وهو خمسة مائة درهم جياداً فهل زوجته يا أمير المؤمنين بها على هذا الصداق المذكور ؟ .
فقال المأمون : نعم قد زوجتك يا أبا جعفر أم الفضل ابنتي على الصداق المذكور ، فهل قبلت النكاح ؟ قال أبو جعفر عليه السلام : قد قبلت ذلك ورضيت به .
فأمر المأمون أن يقعد الناس على مراتبهم في الخاصة والعامة .
قال الريان : ولم نلبث أن سمعنا أصواتا تشبه أصوات الملاحين في محاوراتهم فإذا الخدم يجرون سفينة مصنوعة من فضة مشدودة بالحبال من الابريسم ، على عجلة مملؤة من الغالية ، ثم أمر المأمون أن تخضب لحاء الخاصة من تلك الغالية ثم مدت إلى دار العامة فتطيبوا منها ووضعت الموائد فأكل الناس وخرجت الجوائز إلى كل قوم على قدر هم .
فلما تفرق الناس وبقي من الخاصة من بقي ، قال المأمون لأبي جعفر عليه السلام : إن رأيت جعلت فداك أن تذكر الفقه الذي
فصلته من وجوه من قتل المحرم لنعلمه ونستفيد .
فقال أبو جعفر عليه السلام : نعم إن المحرم إذا قتل صيدا في الحل وكان الصيد من ذوات الطير ، وكان من كبارها ، فعليه شاة ، فان أصابه في الحرم فعليه الجزاء مضاعفا ، وإذا قتل فرخا في الحل فعليه حمل قد فطم من اللبن وإذا قتله في الحرم فعليه الحمل وقيمة الفرخ ، فإذا كان من الوحش وكان حمار وحش فعليه بقرة ، و إن كان نعامة فعليه وإن كان ظبيا فعليه شاة وإن كان قتل شيئا من ذلك في الحرم فعليه الجزاء مضاعفا هديا بالغ الكعبة .وإذا أصاب المحرم ما يجب عليه الهدي فيه ، وكان إحرامه بالحج نحره بمنى ، وإن كان إحرامه بالعمرة نحره بمكة ، وجزاء الصيد على العالم والجاهل سواء وفي العمد عليه ثم وهو موضوع عنه في الخطاء ، والكفارة على الحر في نفسه ، وعلى السيد في عبده ، والصغير لا كفارة عليه ، وهي على الكبير واجبة والنادم يسقط ندمه عنه عقاب الآخرة والمصر يجب عليه العقاب في الآخرة .
فقال المأمون : أحسنت يا أبا جعفر أحسن الله إليك فان رأيت أن تسأل يحيى عن مسألة كما سألك فقال أبو جعفر عليه السلام ليحيى : أسألك ؟ قال : ذلك إليك جعلت فداك فان عرفت جواب ما تسألني عنه وإلا استفدته منك .
فقال له أبو جعفر عليه السلام : أخبرني عن رجل نظر إلى امرأة في أول النهار فكان نظره إليها حراما عليه ، فلما ارتفع النهار حلت له ، فلما زالت الشمس حرمت عليه ، فلما كان وقت العصر حلت له ، فلما غربت الشمس حرمت عليه ، فلما دخل طلع الفجر حلت له ، ما حال هذه المرأة وبماذا حلت له وحرمت عليه ؟ فقال له يحيى بن أكثم : لا والله لا أهتدي إلى جواب هذا السؤال ولا أعرف الوجه فيه ، فان رأيت أن تفيدناه .
فقال أبو جعفر عليه السلام : هذه أمة لرجل من الناس ، نظر إليها أجنبي في أول النهار فكان نظره إليها حراما عليه ، فلما ارتفع النهار ابتاعها من مولاها فحلت له  فلما كان عند الظهر أعتقها فحرمت عليه ، فلما كان وقت العصر تزوجها فحلت له فلما كان وقت المغرب ظاهر منها فحرمت عليه ، فلما كان وقت العشاء كفر عن الظهار فحلت له ، فلما كان نصف الليل طلقها واحدة ، فحرمت عليه ، فلما كان عند الفجر راجعها فحلت له .
قال : فأقبل المأمون على من حضره من أهل بيته فقال لهم : هل فيكم من يجيب هذه المسألة بمثل هذا الجواب أو يعرف القول فيما تقدم من السؤال ؟ قالوا : لا والله إن أمير المؤمنين أعلم وما رأى فقال : ويحكم إن أهل هذا البيت خصوا من الخلق بما ترون من الفضل ، وإن صغر السن فيهم لا يمنعهم من الكمال أما علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وآله افتتح دعوته بدعاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وهو ابن عشر سنين ، وقبل منه الإسلام وحكم له به ، ولم يدع أحدا في سنه غيره ، وبايع الحسن والحسين عليهما السلام وهما ابنا دون الست سنين ، ولم يبايع صبيا غيرهما أولا تعلمون ما اختص الله به هؤلاء القوم وإنهم ذرية بعضها من بعض يجري لآخرهم ما يجري لأولهم ، فقالوا : صدقت يا أمير المؤمنين ثم نهض القوم .

عن زرقان صاحب ابن أبي داود وصديقه بشدة قال : رجع ابن أبي داود ذات يوم من عند المعتصم وهو مغتم فقلت له في ذلك ، فقال وددت اليوم أني قدمت منذ عشرين سنة ، قال قلت له : ولم ذاك ؟ قال : لما كان من هذا الأسود أبي جعفر محمد بن علي بن موسى اليوم بين يدي أمير المؤمنين ، قال : قلت له : وكيف كان ذلك ؟ قال : إن سارقا أقر على نفسه بالسرقة ، وسأل الخليفة تطهيره بإقامة الحد عليه ، فجمع لذلك الفقهاء في مجلسه وقد أحضر محمد بن علي فسألنا عن القطع في أي موضع يجب أن يقطع ؟ قال : فقلت : من الكرسوع.
قال : وما الحجة في ذلك ؟ قال : قلت : لأن اليد هي الأصابع والكف إلى الكرسوع ، لقول الله في التيمم " فامسحوا بوجوهكم وأيديكم " واتفق معي ذلك قوم .
وقال آخرون : بل يجب القطع من المرفق ، قال : وما الدليل على ذلك ؟ قالوا : لان الله لما قال : " وأيديكم إلى المرافق " في الغسل دل ذلك على أن حد اليد هو المرفق .
قال : فالتفت إلى محمد بن علي عليه السلام فقال : ما تقول في هذا يا أبا جعفر ؟ فقال : قد تكلم القوم فيه يا أمير المؤمنين ، قال : دعني مما تكلموا به ! أي شي ء عندك ؟ قال اعفني عن هذا يا أمير المؤمنين قال : أقسمت عليك بالله لما أخبرت بما عندك فيه .
فقال : أما إذ أقسمت علي بالله إني أقول إنهم أخطأوا فيه السنة ، فان القطع يجب أن يكون من مفصل أصول الأصابع ، فيترك الكف ، قال : وما الحجة في ذلك ؟ قال : قول رسول الله : السجود على سبعة أعضاء : الوجه واليدين والركبتين والرجلين ، فإذا قطعت يده من الكرسوع أو المرفق لم يبق له يد يسجد عليها وقال الله تبارك وتعالى : " وأن المساجد لله " يعني به هذه الأعضاء السبعة التي يسجد عليها " فلا تدعوا مع الله أحدا " وما كان لله لم يقطع .
قال : فأعجب المعتصم ذلك وأمر بقطع يد السارق من مفصل الأصابع دون الكف .
قال ابن أبي داود : قامت قيامتي وتمنيت أني لم أك حيا قال زرقان : قال ابن أبى داود صرت إلى المعتصم بعد ثالثة فقلت : إن نصيحة أمير المؤمنين علي واجبة وأنا اكلمه بما أعلم أني أدخل به النار ، قال : وما هو ؟ قلت : إذا جمع أمير المؤمنين في مجلسه فقهاء رعيته وعلماء هم لا مر واقع من أمور الدين ، فسألهم عن الحكم فيه فأخبروه بما عندهم من الحكم في ذلك ، وقد حضر مجلسه أهل بيته وقواده ووزراؤه وكتابه ، وقد تسامع الناس بذلك من وراء بابه ، ثم يترك أقاويلهم كلهم لقول رجل يقول شطر هذه الأمة بإمامته ، ويدعون أنه أولى منه بمقامه ثم يحكم بحكمه دون حكم الفقهاء ؟ ! قال : فتغير لونه وانتبه لما نبهته له ، وقال : جزاك الله عن نصيحتك خيرا ، قال فأمر اليوم الرابع فلانا من كتاب وزرائه بأن يدعوه إلى منزله فدعاه فأبى أن يجيبه وقال : قد علمت أني لا أحضر مجالسكم ، فقال : إني إنما أدعوك إلى الطعام وأحب أن تطأ عتبات بابي ، وتدخل منزلي فأتبرك بذلك ، فقد أحب فلان بن فلان من وزراء الخليفة لقاءك فصار إليه فلما طعم منها أحس السم فدعا بدابته فسأله رب المنزل أن يقيم قال : خروجي من دارك خير لك ، فلم يزل يومه ذلك وليله في خلفه حتى قبض عليه السلام في العشر الأواخر من ذي القعدة عام 220 هج .

أثّر السمّ في الإمام تأثيراً شديداً ، فقد تفاعل مع جميع أجزاء بدنه وأخذ يعاني منه آلاماً مرهقة ، فقد تقطّعت أمعاؤه من شدّة الألم ، وقد عهدت الحكومة العباسية إلى أحمد بن عيسى أن يأتيه في السحر ليتعرّف خبر علّته، وقد أخبر الإمام عليه‌السلام بوفاته من كان عنده في الليلة التي توفّي فيها فقال لهم : نحن معشر إذا لم يرض الله لأحدنا الدنيا نقلنا إليه وأخذت الآلام من الإمام مأخذاً عظيماً، وكان في ريعان الشباب وغضارة ربيع الـ 25 عاما ً . فلمّا أحسّ (ع) بدنو الأجل المحتوم منه أخذ يقرأ سوراً من القرآن الكريم ، وقد لفظ أنفاسه الأخيرة ولسانه يلهج بذكر الله تعالى وتوحيده ، فانطفأت بموته شعلة مشرقة من مشاعل الإمامة والقيادة الواعية المفكّرة في الإسلام.

لقد استشهد الإمام عليه‌السلام على يد طاغية زمانه المعتصم العباسي فانطوت بموته صفحة من صفات الرسالة الإسلامية التي أضاءت الفكر ورفعت منار العلم والفضيلة الحقة في الأرض.

جُهِّز بدن الإمام عليه‌السلام فغسُّل وأدرج في أكفانه ، وبادر الواثق والمعتصم فصلّيا عليه، وحُمل الجثمان العظيم إلى مقابر قريش ، وقد فجعت به الجماهير الحاشدة ، فكان يوماً لم تشهد بغداد مثله، إذ ازدحمت عشرات الآلاف في مواكب حزينة وهي تردّد فضل الإمام وتندبه ، وتعلن الخسارة العظمى التي مني بها المسلمون في فقدهم للإمام عليه‌السلام. وحفر للجثمان الطاهر قبر ملاصق لقبر جدّه العظيم الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام ، وريَ فيه وقد واروا معه القيم الإنسانية ، وكلّ ما يعتزّ به الإنسان من المثل الكريمة. لكنَّه بقي مناراً بشعُّ بالذكرى الخالدة و منائراً تسمو بالكبرياء ، وقباباً تزهو بالذهب اللامع والعنفوان الرسالي الشامخ في بغداد الخالدة و الكاظمية المقدسة ، تهفو إليه قلوب المحبّين من كل الدنيا متضوعة ً بعبق العترة المحمدية الطاهرة التي أذهب اللهُ عنهم الرجسَ وطهرهم تطهيرا .

 ها هي الملايين تتوافد كل عام ٍ يومَ 25 ذي القعدة متزاحمة وآلهة ً مستشفعة ً به إلى الله ورسوله وهي تطوف بأرواحها الزكية حول ضريحه الطاهر المبارك ، مجددةً الولاء لآل بيت النبوة .. تجديداً لبيعة جدهم المصطفى محمد بن عبد الله رسول الله لأبيهم الإمام الوصي الأول علي بن أبي طالب عليه السلام يوم الغدير  .

السلام عليك يا مولاي يا محمد الجواد .. يوم ولدتَ ويوم استشهدتَ ويوم تبعث حيّا ورحمة الله وبركاته ؛؛؛

***

المصادر : .......

ـ حياة الإمام محمد الجواد ـ سماحة العلامة الشيخ باقر شريف القرشي (قدس سره الشريف)

ـ موسوعة أنصار الحسين عليه السلام