بينَ وادِيَين

بعد 9/4/2003 ، كانَ بقية العِراق ، يأملُ ان يكون أقليم كردستان ، قدوة لترسيخ التجربة الديمقراطية الجديدة ، ومصدر إشعاعٍ وأمل .. على الأقل ، بسبب تجربة الأقليم منذ 1991 ، في الإدارة الذاتية والتعدُدية الحزبية . وبالفعل ، كانتْ فرصة ذهبية ، لأقليم كردستان أن يكون نواة لبناء عراقٍ على اُسُسٍ متينةٍ وصحيحة . لكن الأمور لم تَسِر على هذا المنوال الجميل والمُتفائِل .. وظهرَ أن المسألة أعقد من ذلك كثيراً .. فلا الطبقة السياسية الآتية بدعمٍ من المُحتَل الأمريكي ، ولا الساسة الذين كانوا في الداخل .. ولا حتى القادة الكُرد .. لم يكونوا بمُجملهم ، بمستوى التعامُل الصحيح ، مع التغيير الذي حصل .. لاسِيما وأن العّراب الأمريكي نفسه ، لم يكُن جّاداً في خلق أرضية حقيقية لبناء عراقٍ جديد ديمقراطي .. بل ان سياسته المتخبطة والمشبوهة ، أدتْ الى تفاقُم الأوضاع تدريجياً وبصورةٍ متصاعدة ، وفي كافة المجالات ، حيث إنتشَر الفساد بشكلٍ مُضطَرد وتكالبت الطبقة السياسية ، على السُلطة وتوزيع الغنائم والإمتيازات ، ضارِبين بعرض الحائط ، القانون والدستور وحقوق الناس والمصالح الوطنية العُليا ! .
من إفرازات عراق ما بعد 2003 ، علاقة أقليم كردستان بالحكومة الإتحادية في بغداد ، في ظل دستورٍ ملئٍ بفقراتٍ غامضة وذات نهاياتٍ سائبة ، قابلة للتأويلات المُختلفة ، خصوصاً مع غياب محكمة إتحادية عُليا ، مهنية مُستقلة فاعلة ، يخضع الجميع لأحكامها .
في رأيي ، ان ( قُوّة ) الكُرد في بغداد ، قد تناقصتْ بصورةٍ جَلِية ومنتظمة .. ففي حين كانتْ فاعلة ومُؤثِرة في 2005 ، فأنها تقلصَتْ في 2010 .. وإذا سارتْ المباحثات الجارية الآن ، على هذا المنوال ، فأن الوجود الكردستاني في بغداد ، سيكون في أضعف حالاتهِ في حكومة عبادي . وأعتقد ، بأن الذي يتحمل الجزء الأكبر من مسؤولية هذا التراجُع السياسي الكردي ، في بغداد .. ليسَ المالكي ولا الأحزاب الشيعية او السُنية .. بل ان ( إفتقار الكُرد لإستراتيجية واضحة مبنية على اُسُسٍ متينة ، وكذلك عدم وحدة الصف الكردي ، إضافةً الى إنشغال الحزبَين الديمقراطي والإتحاد في الحصول على مكاسب حزبية وشخصية طيلة السنوات الماضية ) .. هو السبب الجوهري في التراجعات المتواصلة في بغداد . علماً ، ان هذه الحالة مازالتْ مُستمرة ، بل رُبما تكون قد تفاقمتْ في الآونة الأخيرة ، لاسيما بالنسبة الى التخبُط الذي تشهده علاقة الديمقراطي مع الإتحاد ، وما يجرهُ ذلك من آثار وخيمة تُؤدي الى ضُعف المُفاوِض الكردي في بغداد ! .
* وصلتْ الإتهامات المتبادلة ، الى مُستوى التشكيك ، في قيام بعض قياديي الإتحاد بإقناع وتشجيع المالكي ، حينها .. الى التوقف عن دفع رواتب موظفي الأقليم منذ بداية السنة .. من أجل ان يثور الناس ، على السُلطة ولا سيما على الحزب الديمقراطي ! .
* في حين ان الإتحاد ، يتهم الديمقراطي ، بأنه منذ أكثر من سنة ، يبيع الى جماهير الأقليم ، شعارات غير واقعية ، بعيدة كُل البُعد عن التحقٌق .. وأنه يفتعِل تأزيم الأوضاع مع بغداد !
.....................................
كِلا الحزبَين ، وكما شأنهما دائماً .. يستمرئون الضحك على ذقوننا ، ويتصورون بأن الناس ينسون ، بأن كليهما مُشتركان مُناصفةً في سُلطة الأقليم منذ 23 سنة ، ومعاً تقاسما المناصب في بغداد ، وسوية أدارا الملفات جميعاً : النفطية والأمنية والمالية ... الخ . ويداً بِيَد صَرفا الموارد الهائلة ، الداخلية منها والقادمة من ميزانية بغداد أيضاً ، طيلة السنوات الماضية .. بالكيفية التي قاموا بها ، والتي أجزلتْ العطاء لقياداتها وكوادرها وأهدرتْ المليارات في دهاليز الحزبَين ، وأضّرَتْ بالناس والمصالح الوطنية .
فإلى متى .. يصبح قوت الناس ، رواتب الموظفين والعاملين ، أداةً للمُساومات بين حزبَي السُلطة في الأقليم وبين حكومة بغداد ولا سيما المالكي وخليفته عبادي ، الذي يبزُ حزبَينا ، في إستهتارهِ بلُقمة عيش الناس الفقراء ؟! كُل هذه الطبقة السياسية المتنفذة في بغداد وأربيل ، المتنعمين برواتب وإمتيازات هائلة .. لا يشعرون قيد أنملة ، بمُعاناة الغالبية العُظمى من الناس في الأقليم ، الذين لايملكون موارد غير الراتب .. الراتب الذي لا يأتي إلا كل ثلاثة أشهُر ..
حقاً ان الطبقة السياسية الحاكمة المتنفذة ، في وادٍ ، والناس الفُقراء في وادٍ آخر بعيد ! .