انتصر الحوثيون، دخلوا العاصمة اليمنية، سيطروا على المقار الحكومية والعسكرية والأمنية، وفرضوا مشروعهم السياسي التصحيحي، فكيف تسنى لهذه القوة الصغيرة تحقيق ما أشبه بالمعجزة؟
لم يكن انتصاراً سهلاً، ولم يحدث بين ليلة وضحاها، على مدى سنين تعرض الحوثيون لهجمات عدة، من أعداء كثر، شن الجيش اليمني ست عمليات كبرى عليهم، كلها فشلت، فجاء دور الجيش السعودي ليجرب حظه مع الحوثيين، فأذاقوه شر هزيمة، وطاردوه إلى عقر داره، وأسروا العديد من جنوده، وتلك أكبر هزيمة لحقت بمملكة آل سعود منذ قرن.
لم يتعظ حزب التجمع اليمني للإصلاح المرتبط بتنظيم الأخوان المسلمين العالمي في اليمن من هزائم الجيشين اليمني والسعودي فأقحموا قواتهم في معارك مع الحوثيين، انتهت باندحار أتباع الأخوان وتكبدهم خسائر فادحة.
عداء السلفيين للحوثيين عقائدي ومصلحي، تحت غطاء حكومي وإسناد سعودي تمدد السلفيون إلى داخل مناطق الحوثيين، واتخذوا لهم مواقع محصنة، وجاهروا بمعاداة الحوثيين، واعتدوا عليهم، ودارت بين الطرفين معارك، وكلما خسر السلفيون موقعاً لهم سارعت الحكومة اليمنية الخاضعة للدويلات الخليجية إلى ترتيب هدنة بينهما، لكي يلملم السلفيون فلولهم، ويعدوا العدة لجولة أخرى، واستمر مسلسل هزائم السلفيين التكفيريين، حتى تم طردهم من جميع مناطق الحوثيين وشمال اليمن.
يمتلك الحوثيون عوامل قوة كبيرة، مكنتهم من التحول من فئة مستضعفة مضطهدة إلى أقوى كيان سياسي مسلح في اليمن، ومن أهمها العقيدة السياسية والقيادة المخلصة والتنظيم الجيد واستقلال القرار والاعتماد على الذات واختيار الوسائل المناسبة والانفتاح على الغير.
هدف الحوثيين محدد: يمن مستقل ومزدهر، الاستقلال في نظرهم رفض الهيمنة، بكل أشكالها، الدولية منها والإقليمية، لذلك ينقمون على أمريكا والكيان الصهيوني، ويتصدون لمخططات السعودية وقطر وغيرهم من صنائع الغرب في المنطقة، وهم يرون في الدول الرافضة للهيمنة مثل إيران شركاء في الهدف وفي الجماعات المناهضة للاحتلال كحزب الله اللبناني نماذج جديرة بالاقتداء.
هل رأيتم مسيرة للحوثيين؟ يظن الناظر بأنهم يهرولون، ولكنهم في الواقع يسيرون، وبخطوات قوية، وصفوف متراصة، وشعارات موحدة، وتستشف من ذلك أعلى درجات الحماس والهمة والعزم والتصميم، وبمثل هذه العزيمة تضاعفت قوة سلاحهم البسيط، فلا طائرات ولا دبابات أو مدافع ثقيلة، وتمكنوا من دحر الجيشين اليمني والسعودي وفئات عقائدية مسلحة وقبائل مرتزقة.
قيادة الحوثيين مخلصة، على عكس الكثير من القيادات في العالمين العربي والإسلامي، تستطيعون تصور الإغراءات الضخمة المقدمة لهم، ولو كان ولائهم يشترى بالمال لكانوا الآن تبعاً للسعودية أو قطر أو أمريكا.
النجاح شاهد على التنظيم الجيد، ومن يستطيع انكار نجاحهم الباهر؟ وهم في تنظيم صفوفهم وقواتهم لم يستعينوا بمستشارين أمريكان أو غيرهم بل اعتمدوا على أنفسهم، واستفادوا من تجارب إقليمية مثل تجربة حزب الله الناجحة.
قرار الحوثيين مستقل، نابع من رؤيتهم الاستراتيجية، لا يأخذ في الاعتبار مصالح فئوية، ولا يستجيب لضغوط عالمية أو إقليمية، ولا توجد في صعدة قنصليات، ولم تصعد إليها وفود من دول أجنبية، وهم لا يؤجلون قرارتهم بانتظار تعليمات من طهران أو غيرها.
من بعد الله يعتمد الحوثيون على أنفسهم، يعرفون جيداً أن الاعتماد على الغير ضياع لاستقلال القرار، وقد يمهد لخسائر أخرى، عندما يتحولون إلى مجرد بيادق بيد من يعتمدون عليه، وعلى خلاف حزب الله في لبنان لا يمتلك الحوثيون جاراً مثل النظام السوري يمدهم بالسلاح والعتاد والمعلومات الاستخبارية، لذلك هم يعون جيداً أهمية الاعتماد على الذات، ويعملون وفقاً لذلك.
يختار الحوثيون وسائلهم بحكمة، ولكل وسيلة زمانها وظروفها المناسبة، فهم يعتمدون المسيرات السلمية الكبيرة في إيصال مطالبهم المشروعة، ولكن إن فرض عليهم القتال كانوا مستعدين، وفي كل الأحوال يسارعون للتفاوض مع كل الأطراف من دون استثناء.
لا يقصي الحوثيون أحدا، وشعاراتهم الدينية لم تمنعهم من التعاون مع الماركسيين والعلمانيين إذا تطابقت الأهداف، ولا يترددون في مد اليد للذين ناصبوهم العداء وحاربوهم مثل التجمع اليمني للإصلاح، مما يؤكد حرصهم على إيقاف سيل الخلافات والصراعات التي تتهدد وحدة اليمن واستقراره وإعادة إعماره.
تجربة الحوثيين جديرة بالدراسة المتعمقة لاستخلاص الدروس والعبر المفيدة منها.
(للإسلام غايتان عظمتان هما الإحياء والإصلاح ووسيلة كبرى هي التعلم).
|