بضاعة الأنا..

لا تصحّ الاستعاذة من كلمة (أنا) إلا لشاعر.

ذاك أنه حين يقول أناه صريحة واضحة وبلا مواربة إنما يكون قد سلك طريق العامة في الإفصاح عنها، واغترف من أقرب الموارد إليه وأعفى نفسه من تأملٍ عميقٍ يفضي آخر الأمر إلى أن قول الشاعر لأناه يستغرق عمراً ونتاجاً شعريين.

في الفنّ من الحيلة والدهاء والمكر واللعب والشيطنة ما يجعل الصراحة تسطيحاً، وإشهار الذات علامة وهنٍ وقلة دربة، والنصّ علانية على الأنا دليلَ عدم تدبّر. وفي الجملة فإن عطشَ الشاعر إلى التلويح بأناه في نصه من بعض آثار استغراقنا بتراث شعريٍ عربيّ لم يعرف المواربة في القول إلا لماماً ولم يستسغْ مداورةَ الكلام لجعله فناً، كان الشعر (ولم يزل) محض جمل برقية يجهد صاحبها في شحنها بأنفس مقتنياته: أناه التي كانت على الدوام منصوصاً عليها بفائض من اليقين وبقدر وافر من الوثوق.

حاجة الشعر إلى التزاوج مع السرد تتأكد هنا، ففي السرد لا يكون مقنعاً إلا ذلك الذي لا تجد لذاته في نصه أثراً ولا عيناً، تندكّ أناه في شخوص ومصائر ووقائع وأمكنة وتفاصيل كثيرة بحيث يبدو أنْ ليس من ذات حقيقية وراء ذلك كله، ليس وراءه إلا موت الأنا، علامة حياة الفنّ.

في الإتيكيت (وهو فنّ العيش) كما في الشعر (فنّ الكتابة) تلزمنا أقنعة نواري بها فظاظةَ أن نجعل من ذواتنا مادة للإشهار، نسلك درباً قصياً لنوصل أنفسنا إلى الآخر لا كمادة خامّ بل كتحفة مشغولة بكثير من التعب، كقطعة فنية صاغها محترف، أقول لآخري قارئاً أو مستمعاً: لقد أتعبتُ نفسي في وصولي إليك، هاك أناي أقدمها لك مزركشة بمعارف، صور واستعارات، سرد وتأملٍ.

(أنا) الشاعر رأسماله وبضاعته، والعامة وحدهم وعشاق الشعر الشعبيّ يرغبون بها كيفما اتفق، بينما قرّاء الأعماق يعشقون اللحظة التي يزيحون بها الغلاف عن الهدية أكثر من عشقهم الهدية نفسها.

ليس من لذة تعادل سلوك الشاعر دروباً ملتوية ليدهشنا في المنعطفات إلا لذة القارئ وهو يرفع عن الجوهرة غطاء بعد غطاء.

من لا تشكل عليه ذاته لن يشكل عليه شيء، ومن نصّ على نفسه باعها لأول مشترٍ في الطريق.