تعرض العراقيون إضافة لسكان دول مشابهة أخرى، الى مشكلات سياسية و اقتصادية، أدت الى نزوح اعداد غفيرة منهم للبحث عن بلدان أخرى للعيش فيها، وقد تغير هذا النزوع من مسعى وقتي، الى مسعى دائم يلجأ اليه الفرد لتأسيس الحياة الدائمة في بلد آخر غير بلده الأصلي؛ وكان العراقيون في طليعة الذين اضطروا الى البحث عن أماكن أخر للعيش.
لقد تحول نزوع العراقيين الى الهجرة، ومحاولة البحث عن اوطان يلجؤون اليها، الى حالة دائمة؛ بسبب عدم التوصل الى إرساء دوافع الاستقرار في البلد، فمن الحروب المتكاثرة، الى الازمة الاقتصادية أيام العقوبات الدولية في سنوات 1990 الى 2003، الى تواصل الجدب في الحياة الجديدة التي انبثقت عن التغيير في نيسان من ذلك العام؛ فلا مظاهر للتسلية واللهو ولا دور سينما او نواد ثقافية ولا مقاه يلجأ اليها الناس للاسترخاء وتزجية الوقت والتخفيف عن الاجهاد في العمل و الحياة؛ كما لم تنشأ ملاعب رياضية جديرة بالاحترام، فظل العراق يضم ملعبين رئيسين فقط هما الشعب والكشافة انشئا في عقود سابقة؛ كل ذلك وكثير غيره عوامل تدفع الف مرة الى التفكير بالسفر والعيش في بلدان أخرى.
اما الوضع الأمني وتواصل عمليات التفجير، والموت اليومي للعراقيين، فادى الى ادخال الناس في حالة من الفوضى والاكتئاب والفزع، اذ أصبحت التفجيرات تترصدهم في أي وقت من يومهم.
يضاف الى كل ذلك بَرم العراقيين بالسياسيين، الذين يصر معظمهم على التعايش مع موبقات الحياة ويمعنون في فسادهم المالي والإداري؛ ما ينتج عنه تخلف كبير في رعاية مصالح الناس، والتفريط بتنفيذ الخدمات المطلوبة لهم، ما أدى الى اهمال نظافة المدن والتقاعس عن رفع الازبال والانقاض؛ وتلك ظاهرة نلاحظها في كثير من المناطق حتى ضمن التصميم الأساس للعاصمة بغداد.
كل تلك الأمور التي يرافقها التحشيد الطائفي والعشائري والاثني، واستهداف الناس الأبرياء بسبب تلك الاختلافات، والافتخار بالولاء على وفق تلك الاعتبارات وليس الانتماء للبلد؛ نجم عنها حرف اتجاهات النسبة الاغلب من الجيل الحالي ليتوافق مع تلك الولاءات، وبالنتيجة اهمل الولاء الوطني بعد ان غابت مشتركاته وتوزع الناس بين ولاءاتهم تلك؛ بل والافتخار بها برغم ما تسببه لهم من كوارث ومآس.
وبرغم ان بعض الناس يصرون على التصريح بولاءاتهم الوطنية لحد الآن، فان الوقائع المريرة تشير الى عكس ذلك تماما، اذ ان الافتخار بالانتساب الديني والطائفي والقومي هو السائد، كما ان تلك الامور برغم انها تسببت في استمرار المشكلات في العراق وادت الى عدم استقرار واعاقة اعماره وبرغم معرفة الناس بمخاطرها، فان النسبة الأعظم من العراقيين لم تزل تتفاخر بها، ما يوجب علينا الإقرار بتواجدها بقوة؛ لنكشف سبب مأساتنا وطريقة الخروج منها.
ان استمرار الأحوال في العراق على تلك الشاكلة من الإزاحات النفسية والاجتماعية، افقد الناس في العراق ما يسمى «روح المواطنة» والانتساب الى بلد، و غدا كثير من الناس يعربون عن ذلك علنا، و يجاهرون بالقول؛ ما فائدة الوطن اذا لم يوفر لي العدالة المطلوبة التي اضمن بها حياتي وحياة اسرتي واطفالي لاسيما في العراق الغني بثرواته، فبدأ الكثيرون يفكرون بترك البلد والاستقرار في بلدان أخرى ونيل جنسياتها، ولم يعد الامر مقصوراً على الجيل الجديد من الشباب؛ بل شمل ذلك حتى الكبار في السن الذين باتت فئة واسعة منهم تفكر في إيجاد طريقة للسفر والارتحال وبخاصة الى أوروبا وأميركا لتمضية ما تبقى من حياتهم، اذ في الأقل ستتوفر لهم في تلك البلدان الرعاية الصحية التي يفتقر اليها العراق الذي يذهب فيه المريض الى المستشفى ليموت بدلا من ان يتعالج!
ان تواصل معاناة العراقيين في وطنهم الافتراضي العراق ـ ولا نقول ذلك على سبيل التهكم بل هو والواقع ـ أدت بهم الى طرق شتى السبل لتركه والانتقال الى بلدان أخرى؛ وقد تسببت عمليات هجرة عدة الى موت عشرات بل مئات العراقيين بسبب ظروف جوية غير ملائمة، او بفعل سوء وسائل نقل تقلهم للوصول الى تلك البلدان؛ كما أصبحت عبارات درجت عليها الأمم المتحدة في التعامل مع طالبي اللجوء ومنها «التوطين في بلد ثالث» تثير آمال العراقيين الذين تكاثر نازحوهم على مر السنوات والأيام؛ وبصراحة فان كثيراً من العراقيين اصبحوا يفضلون العيش حتى في بلدان فقيرة لا تقارن بغنى العراق؛ نشداناً لحياة آمنة فشل السياسيون في توفيرها، وعملت جهات عدة على تغييبها في العراق؛ وغدا حلم التوطين في بلد ثالث يراود العراقيين، الذين اجبروا على ترك العراق والاستقرار مؤقتاً في أماكن لجوء ثانية، والامر مرشح للتفاقم بتكاثر اعداد المضطرين الى ترك بيوتهم والنازحين من مناطق سكناهم، بتأثير الازمة الأمنية والسياسية التي يبدو ان العراق سيظل لصيقاً بها ما دام الأداء السياسي لأركان السلطات في البلد بهذا المستوى من التخلف؛ الذي يعوق كل امل بالخلاص والانتقال الى حياة الراحة والاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والنفسي.
|