لا اريد الدخول إلى الموضوع من باب التعريف، فتعريف هذه المفردة (الديمقراطية) غني عن التعريف... ولكني أريد التوغل إلى بعض الأعماق التي يسكت عنها المفهوم المتداول للكلمة، حيث يوجد معنى آخر غير مفكر فيه أو ممنوع التفكير فيه (حسب مشيئة واضعي هذه النظرية السياسية)... الديمقراطية بمعناها الواسع الذي هو (حكم الشعب) لا يخلو من تهويل وتوسيع فهو في الحقيقة (حكم النخبة) التي يختارها الشعب وليس هو حكم الشعب. ولكن النخبة التي ترتفع إلى سدة الحكم في كافة الدول التي تؤمن بهذه النظرية (الديمقراطية) لا تظفر بالحكم طبقاً لمعايير النزاهة والأمانة والموهبة... فهذه الصفات (كما سيتضح) مجرد أدوات للدعاية الانتخابية، ثمة معيار واحد فقط يتمكن من خلاله المرشح الاستحواذ على صوت الناخب ألا وهو قوة الاقناع بـ(الدعاية)... وهذا المعيار له أدواته الخاصة، وهي تعمل معا لغاية واحدة هي تهيئة الرأي العام وإعداده نفسياً للإدلاء بصوته، ولكن ليست كل دعاية انتخابية تفلح في بلوغ أهدافها، فلكل مرشح حملة دعائية خاصة ولكنها لا تضمن له الفوز، المطلوب في الدعاية حتى تكون مؤثرة في حشد الجماهير وتوظيف أصواتهم هو أن تكون صاخبة ومدوية، فالإقناع منوط بذلك الدوي الصانع للامجاد ورحم الله المتنبي حيث ابدع في وصف هذه الحقيقة الاجتماعية الكبرى:
وتركُكَ في الدُّنيا دويّاً كأنَّما ... تَداولَ سمعَ المرءِ أنمُلُهُ العشرُ
أي أن الدعاية تشتغل على آلية الكم وليس الكيف، نعم لنوع الدعاية تأثير في إقناع الناخب ولا سيما إذا كانت تضرب على وتر المباديء والأعراف الاجتماعية والوعود بالتغيير نحو الأفضل، وهذا الأمر يكاد يكون متشابهاً ومستنسخاً في أغلب الدعايات الانتخابية مع تغيير طفيف في الاسلوب، فالأمر الحاسم في موضوع الدعاية الانتخابية هو الكم، ولأجل أن تكون الدعاية صاخبة ومكثفة يلزمها أموال طائلة، ولذلك فإن حظ الأغنياء في الوصول إلى سدة الحكم أوفر كثيراً من حظ الفقراء (بل أشك أن يكون لهم حظ على الاطلاق في هذه اللعبة). فبالدعاية يستطيع المرشح أن يبرمج الرأي العام ويؤثر فيه وفق ما يحلو له، بل وينوم الجماهير مغناطيسياً حتى لا يكادون يرون شخصاً آخر غيره صالحاً للمنصب، إن المرشح يتمكن بدعايته أن ينسب لنفسه خصالاً ليست فيه، ثم يقنع الناس بأنها فعلاً خصاله. إن ترويج هذه الخصال الكاذبة حتى تبدو حقيقية وصادقة أمام الناس يفتقر إلى صرف وانفاق وبذخ كبير وخاصة على الفقراء والمساكين، ولا يسع هذه الشريحة من الناس (الفقراء) بحكم ما تتشدق به من مباديء ومثل ومفاهيم إنسانية أن تتغاضى عن الجميل الذي يسديه لها المرشح الغني ولو بالوعود الكاذبة، ولهذا فإنها لن تخذله في وقت (الشدة) بل تمنحه اصواتها ممتنة شاكرة، إذ أن خذلانها له يتقاطع مع منظومة القيم التي تؤسس بنيتها الاجتماعية والاخلاقية.
الديمقراطية في حقيقتها إذن خدعة مارسها الأقوياء والأثرياء من أجل السيطرة على الجماهير وعامة الناس، ومع أن أصول الديمقراطية في العصر الحديث (ابتداءً من عصر التنوير) قد انطلقت من الطبقتين الاجتماعيتين الوسطى والدنيا (البرجوازية والبروليتاريا) للحد من صلاحيات وامتيازات الحكم الشمولي الديكتاتوري ومن استئثار الطبقة العليا (الارستقراطية) بالأملاك والاقطاعات، ففي عهد الثورة الفرنسية نادى المفكرون الفرنسيون وعلى رأسهم جان جاك روسو وفولتير ومنتسكيو بالديمقراطية كحل للاوضاع المتردية على المستوى الشعبي بسبب طغيان المَلِك وطبقة النبلاء واثرائهم الفاحش على حساب الشعب البائس... إلا أن الديمقراطية قد أصبحت في نهاية المطاف (لعبة سياسية) تدار بين ايدي النخبة (أذكياء الاثرياء)، وبالرغم من كون الديمقراطية قد انشأت في باديء الأمر لتكون في خدمة الثوار، إلا أنها قد صارت فيما بعد وسيلة لوأد الثورات والحيلولة دون حصولها، واقناع عامة الناس بأن الحكم الديمقراطي هو حكم الشعب، وبالتالي فقضية (الثورة) لا معنى لها، فهي قضية سالبة بانتفاء الموضوع، كما يقول المناطقة.
إن الثورات في عصرنا الراهن تنشب باسم (الديمقراطية) ثم تصير الديمقراطية في حال فشل تجربتها في بلد ما اقوى سبب أو ذريعة لتبرير عدم قيام الثورات والانتفاضات في المستقبل... فالمرشحون الفائزون بفعل الدعاية الانتخابية يملكون حجة قوية في تبرير الفشل والمواقف المخزية الناجمة عن سوء استغلالهم لمناصبهم، وهم لا يسنخدمون هذه (الحجة) إلا في وجه الشعب وكأنها (فيتو) ضد أية بادرة اعتراض او انتفاض: (أنتم من انتخبنا، ونحن ممثلوكم). الديمقراطية اليوم هي (الدين) الذي تبشر به الولايات المتحدة الأمريكية وتسعى لتشره في العالم بكل جهدها ولو بافتعال المؤامرات الكبرى وإشعال الحروب الإقليمية، فالديمقراطية بالتعديل الأمريكي المعاصر هي الضامن لأمن واستقرار هذه الدولة وهيمنتها على السياسة الدولية، وهذه الحقيقة المغفول عنها قد كرس لإمعان تجهيل الناس بها إعلام اخطبوطي من خلال وسائل الاتصال والتواصل الحديثة، إعلام بدأت معه قصة حضارة جديدة هي (العولمة)... رأس هذا الاخطبوط الإعلامي يوجد في الولايات المتحدة واذرعه تمتد بكل اتجاه في بقاع المعمورة...
|