حيفا ليست قرطبه.. فوزي ناصر

 

 

لم تستطع التحرّر من ذلك الكتاب الذي أسرك ، ورفض الابتعاد حتي وصلتَ غلافه الأخير، أعادك إلى الأدب الأصيل الذي صار اليوم عملةً نادرة، تندهش من البداية وقبل الولوج في طيّاته لما قد تسميه تناقضاً بين تخصص الكاتب وبين كتابة رواية بهذا التألّق، فالمؤلف الدكتور شوقي قسيس محاضر وباحث في علم الميكروبات، فأي علاقة تربطه بعالم الأدب، هذا ما لا تستصعب الوصول إليه بعد الانتهاء من قراءة الكتاب.

تقرأ ويشدّك أن اقرأ.. وتقرأ ويشدّك أكثر، يغالبك النّعاس ولا تستسلم، وتحس كم ثقيل دم هذا المسمّى نعاس حين لا تريده ، تنام وبنفسك ألّا ترمي الكتاب بعيداً، ليظل بمتناول يدك فالنوم لن يطول، ثلاث ساعات فقط وتعود إلى الصفحات التي تركتها، ليأخذك المؤلِّف إلى عالمه الذي لم يكن غريباً عنك، فقد عايشتَه وواكبت المكان والزمان والأحداث التي يسردها بحكمة المتمرّس.

يشدّك جمال اللغة كما سلاسة الأسلوب ودقة الوصف وحسن السرد، وعن ذلك يقول شوقي إن الفضل يعود لمعلمه، معلمنا العظيم شكيب جهشان معلّم العربيّة الذي شجّعه على الكتابة، ويعبّر المؤلف عن أسفه لأن الكتاب رأى النور بعد أن انطفأت شمعة المعلم شكيب.

يكتب عن معلّمه بحب وعرفان وكأنّه يعبّر عنك وعن أترابك، ويطول حديثه الذي يدل على مدى تأثير المعلم المخلص ومدى الوفاء والعرفان، إذ يخصّص فصلاً كاملاً لمعلّمه الذي يستحق الوفاء !

وتدهشك ذاكرة المؤلف والتي تظهر بسرد حكايات علقت في ذهنه في مراحل مختلفة من حياته، منذ كان طفلاً في بيت جدّه، واصفاً البيت ونزلائه وجيرانه ، وصولاً إلى أيّام المدرسة والجامعة وحياته في المهجر لتحس كم يسكنه الوطن في غربته كما تسكنه لغته !

يتحدّث عن زياراته لقريته الرامة وإصراره على التواصل مع أصدقاء العائلة من القرية ومحيطها، إلتزامه بزيارة الخالة طَفْله والجدّة أم عوض من عرب السواعد.

يتطرّق شوقي بأسلوب جميل ورؤيا سياسية وطنيّة لأحداث لها دلالتها ، مثل ( طوشة الزيت ) حيث سطت السلطة على مخازن الزيت في الرامة المشهورة بزيتونها وزيتها، وكيف قاوم الناس بأجسادهم هذا السطو، إلى الحكم العسكري وتدخّله بتعيين المعلمين العرب، إلى سلب الأرض، إلى نضال الهويّة والأرض ودور الشيوعيين الإيجابي سياسياً واجتماعيّاً.

يطرح بأسلوب جذّاب الصراع على وجه الوطن وخريطته واسمه ولغته، وينتقد عبرنته وعبرنة الشارع العربي وتقوقع الناس في بيوتهم وانقطاعهم عن بعضهم وكأن المجتمع يتفسّخ !

وبعد هذا، أليس شوقي الذي تعرفه عندما كنتما صغيرين ؟ أليس ابن معلمتك؟ وأخوه ابن صفّك؟ أليس( وليد ) الذي يذكره كثيراً ابن صفّك وصديق الطفولة والصبا؟ أليس أبو لطيف وأبو شحاده وعوني أبناء بلدك وأقربائك؟ أليس الثلاثي نبيل ونبيل ونبيل أصدقاءك الذين غيّبهم الموت في عز الشباب؟ أليس الشاب الشيوعي كمال صديق شقيقك ومن أتاك بالجريدة أيام الثلاثاء والجمعة ؟

كتاب الدكتور شوقي يحكي عنك وعن جيلك، عن الرامة وكأنه يحكي عن سخنين واكسال والطيبة، فالحكاية واحدة والهم واحد والحلم واحد.

تحية إكبار للمؤلّف ابن الرامة المقيم في بلاد العم سام، وتحية لمن ذكرهم في كتابه من أحياء وأموات.