مولانا الذي لا يشبهه أحد! |
يوزع تنظيم «داعش» على اهالي الموصل، آلاف النسخ من منشور مطبوع بأناقة يحمل عنوان «مدّوا الأيادي لبيعة البغدادي» يستعرض فيه تاريخ خليفة المسلمين، وأصله وفصله وشجرة عائلته التي تبدأ من جدّه عرموش وتنتهي بالإمام علي بن ابي طالب. والبغدادي، كما يصفه كاتب المنشور الذي اطلق على نفسه اسم «تركي البنهلي، ابو سفيان السلمي»، جمع طموح أبي مصعب الزرقاوي، وتواضع أبي عمر البغدادي، ودهاء أبي حمزة المهاجر، وهو زاهد وعابد ومحقق في الأنساب. اللافت ان الكاتب وهو يستعرض سيرة البغدادي يهمل صفحات ما زالت مجهولة من تاريخه الشخصي، ابرزها مرحلة اعتقاله في سجن بوكا لسنوات وما حدث داخل السجن وسمح للأميركيين بإطلاق سراحه، ويستعين بما هو منشور عنه اساساً في وسائل الإعلام، عن نيله الماجستير والدكتوراه في العلوم الاسلامية، وهي معلومة غير صحيحة ولا تثبتها اي وثيقة، وأيضاً تشكيله مجموعة سلفية صغيرة بعد 2003، ثم انضمامه الى مجلس شورى المجاهدين، قبل ان يصبح اميراً لـ «دولة العراق الاسلامية» ثم «خليفة». واقع الحال ان المنشور ومثله الكثير من المراسلات التي جرت في الشهور الاخيرة، موجّهة في مجملها الى الشكوك التي تتضاعف حول خليفة «داعش»، والتي تبناها كبار رجال الدين، والمؤسسات الاسلامية، وأيضاً التيارات السلفية والإخوانية، ومجموعات السلفية الجهادية نفسها، وصولاً الى تنظم القاعدة الدولي بزعامة ايمن الظواهري. ومن الخطأ قراءة سلوك «داعش» في معزل عن هذه الشكوك التي تهدد التنظيم من الداخل، وتفرض اسئلة شرعية خطيرة حتى على مقاتليه انفسهم، تطلق في معظمها على شكل جدليات دينية تحفل بها المنتديات الاسلامية و «الجهادية» الخاصة، والمراسلات، والمواقف المعلنة. الخزينة التي يمتلكها التنظيم من المسوغات الشرعية لجرائمه، موروثة في معظمها من تنظيم «القاعدة» الذي كان بذل الكثير من الجهد طوال عقدين لإكمال خريطته الشرعية المدعومة بآيات وأحاديث وفتاوى وتفسيرات خاصة للنصوص والأحداث التاريخية، كامتداد بدا طبيعياً لخط متشدد وأصولي ترعرع في كنف التجارب والتنويعات الاسلامية عبر الزمن، وتناسخ عبر المراحل لينتج في كل مرة، اتجاهاً فكرياً اشد تصلباً من سلفه. ولأنه النسخة «الاخيرة»، فإن «داعش» وسّع حدود خياراته، فأظهر اهتماماً لم تسبقه اليه التنظيمات السابقة، بنسب الخليفة، الذي لم يعد «هاشمياً قريشياً» فقط، الى آل بيت محمد بشجرة نسل واحدة، ويفترق مع معظم مشايخ السلفية الجهادية حول شروط الخليفة. منشور الموصل، يدعّم هذا الاختلاف، بجملة من الافكار. فالخليفة لا يشترط به ان يحصل على البيعة من كل «اهل الحل والعقد» بل ممن توافر منهم، وله ان يأخذ البيعة «إجباراً»، من الناس استناداً الى رأي الحافظ بن حجر «على وجوب طاعة السلطان المتغلب، والجهاد معه، وأنّ طاعته خير من الخروج عليه، لما في ذلك من حقن الدماء، وتسكين الدهماء». وكانت الشكوك تصاعدت في اوساط منتديات السلفية الجهادية، مع هجوم «داعش» على الإيزيديين، وهم طائفة مسالمة لم يسجل عليها التاريخ اعتداء على احد، فتمت استباحة دمهم ومالهم ونسائهم، وإخبار من تبقى منهم على اعلان اسلامه عنوة، ولتلك الشكوك اصل في الجدل الديني حول شروط قتال «الكفّار» في حال كان بسبب «كفرهم» ام لدرء عدوانهم، وثمة ما يشبه الإجماع على ان القتال مقترن بدرء العدوان. والامر لا يختلف مع طرد المسيحيين من الموصل، بهدف الاستيلاء على منازلهم ومنحها لـ «المهاجرين» ولتـــصبح مخازن للأسلحة ومقرات للدولة. الهزة التي يتعرض لها خليفة «داعش» لا تتعلق فقط بفشله، في تبديد الشكوك حول حقه في «الخلافة» لدى نظرائه والبيئات التي ينشط فيها أتباعه، بل في حسم الجدل حول طريقة قيادته للتنظيم، وسيطرة مجموعة من ضباط الجيش العراقي السابق عليه، واختيار الانتحاريين عبر «القرعة» التي تسمح بأن يكون 90 في المئة من الانتحاريين من العرب والأجانب، فيما يشــكل العراقيون نحو 90 في المئة من التنظيم. كان بعض انصار «داعش» قد لاموا قرار زعيمهم بفتح جبهة لقتال البيشمركة الكردية، وهو القرار الذي استفز الولايات المتحدة، واستدعى تحالفاً دولياً عريضاً ضد التنظيم، فكانت الاجابة غامضة عبر تعليقات مقتضبة في بعض المنتديات عن ان «العلمانيين» الاكراد لا يختلفون عن «الصفويين» الشيعة ولا عن «المرتدين» السنّة. ربما قال أحد ما للبغدادي : «نحتاج الى التحالف الدولي ضدنا لإثبات خلافتك، يجب فتح كل الجبهات في آن واحد، لإشعار الجنود بأنهم يقاتلون في معركة عادلة، وكسب تعاطف المسلمين، ولإخماد الاسئلة الشرعية والشكوك. ففي اوقات الحرب ليس ثمة متسع للتفسيرات والآراء والاختيارات، وبمعنى آخر - نفذ ثم ناقش!». يدرك البغدادي جيداً انه يخوض حرباً اعلامية بالدرجة الاساس، هكذا نجح في كسر خمس فرق عسكرية في الموصل في ساعتين، فحرص على إيلاء الجانب الاعلامي اهمية قصوى، ابتداء من عرض خطبته واختيار طريقة ملبسه وعمامته وشكل لحيته، الى نوع العبارات التي يتم ترديدها بشكل مستمر مثل «باقية وتتمدد»، وليس انتهاء باستعراض الوحشية في قتل الاسرى، والتمثيل بهم. الزخم الإعلامي، واستعراض القدرة على فتح الجبهات واستدراج الجميع الى المعركة، يمكن ان تضمن ان تهتف مجموعة من مشجعي نادٍ رياضي مغربي باسم البغدادي، ويمكن ان تحوله الى صورة نموذجية للزعيم الشرس والغامض، الكفيلة باستقطاب شباب يعانون من اضطرابات الهوية، ومن آثار الانكسار الحضاري. لكن هذا الزخم الاعلامي نفسه لن يجعله خليفة، ولا حاكماً شرعياً على حي من أحياء الموصل. يجهد تركي البنهلي نفسه كثيراً في عرض مواصفات خليفته الذي لا يشبهه احد، ولا حاز مآثره احد، ويبدي دهشته من المشككين بنسبه وبمناقبه، والمرجفين في حقيقة دولته، والمترددين في بيعته، لكنه ينسى ان منشوره يتم توزيعه بقوة البطش والرعب على اهالي الموصل، الذين يفقدون كل يوم العشرات من رجالهم ونسائهم في إعدامات جماعية، لأنهم ببساطة... لا يعترفون بالخليفة ولا بدولته.
|