في المجتمعات الاسلامية دائما يبرز دور رجال الدين من خلال التوعية والإرشاد والدعوة الى الالتزام بأوامر الله سبحانه وتعالى التي تحث على التحلي بالنزاهة والإخلاص في العمل وتتوعد الفاسد بالعقوبة الأخروية كجزاء على سوء فعله. وهناك الكثير من الصور الناصعة التي يمكن لرجل الدين أن يوظفها في هذا الاتجاه ويمكن لنا أن نتأسى بها. قال سبحانه وتعالى (( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً )) الأحزاب/21. فلنتأسَّ بحياة الرسول المهنية حين كلّفه اللهُ سبحانه وتعالى بعدة مهام عظيمة (( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً*وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً))الاحزاب/45-46. كل هذه المهام الكبيرة لم يكن الله تعالى ليكلّفه بها دفعة واحدة، ولم يكلّفه بأدائها إلا بعد أن بلغ سن الأربعين، ولم يكن ذلك لقصور في النبي (صلى الله عليه واله وسلم) وفي نضجه العقلي وإدراكه المعرفي، فقد كان النبي مدّخراَ لأمر عظيم ليضرب القوم في صلب عقيدتهم الفاسدة. في الوقت الذي يعيش هو بين ظهرانيهم، مما يعني توقع ردود أفعال ستكون بالقوة نفسها لكنها في الاتجاه المعاكس. لذا أراد الله سبحانه وتعالى تكليف محمد بالنبوة وفق السياق الطبيعي التدريجي على ضوء ما يمتلكه من مؤهلات واستعداد القواعد الشعبية لتقبِّله.
بدأت حياة محمد (صلى الله عليه واله وسلم) المهنية مديراً مفوضاً في شركة خديجة للتجارة العامة، ولنراجع سجله الوظيفي وإضبارته الشخصية خلال عمله في الشركة، فهل كان يحابي قريباً فيعيّنه لكسب رضا أبناء عمومته؟ وهل كان يطلب (5) أوراق مقابل إيجاد فرصة عملٍ لعاطل؟ وهل كان يشترط على موظف أرسله في إيفاد أن يأتيه بهدية فينظر ((بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ))؟ وهل كان يستغل منصبه في سبيل التقرب إلى الأحزاب السياسية أو أعضاء البرلمان؟ هل كان يقبل الرشوة بعنوان الهدية أو تحت مسميات اخرى؟ هل أباح لنفسه الأخذ من أموال الشركة بعنوان الخمس أو مجهول المالك أو الزكاة وحق الإمام وهو جدّ الإمام؟ هل فكّر باغتنام الفرصة و الحصول على الثروة لتأثيث بيته وتهيئة مستلزمات الزواج لشاب في مثل سنه يحلم بتأمين مستقبله قبل ان يحال على التقاعد أو يعفى من منصبه؟ وهل كانت لدى مدير الشركة أرصدة مالية في البنوك العالمية من الأموال التي جمعها من العطايا والهبات وعمولات المقاولات؟ وهل كان هذا المدير يتمتع بإفادات خارج البلد أكثر من تواجده داخل شركته المكلف بإدارتها؟ الخبر اليقين نجده عند المفتش العام، (ميسرة) خادم صاحبة الشركة، الذي كان يتابع ويراقب عمل المدير المفوض ليزود سيدته بالتقارير اللازمة التي تضمنت نفي جميع التساؤلات السابقة نفياً قاطعاً، وأشادت بكفاءة وإخلاص وحرص المدير وأثبتت ان كل ما كان يحرص عليه المدير المفوض محمد بن عبد الله هو تحقيق المصلحة العليا للشركة وأداء الأمانة التي حمّلته إياها صاحبة الشركة خديجة بنت خويلد، واستمر محمد بهذا الخلق العظيم والنزاهة والإخلاص الكبير في إنجاح الشركة وتحقيق أهدافها حتى زرع الاطمئنان في قلب صاحبة الشركة، وبهذا نجحت الشركة واتسع عملها ونجح مديرها في إثبات كفاءته ونزاهته وقدراته حتى حظي بكل الاحترام و الاهتمام من المحيطين به ومن أبناء قومه، حتى أطلقوا عليه، وفيهم الأعراب الأجلاف أرباب الجاهلية، أطلقوا عليه لقب "الصادق الأمين" لما تحلّى به من فضلى الصفات وكريم الخصال. وحين بلغ الأربعين من العمر لم تفاجأ قريش باختيار محمد نبياً رغم معارضة بعضهم - مكابرةً وخوفاً على مصالحهم الشخصية – وهم من اعترف له علناً وأمام الملأ انه "اخٌ كريم وابنُ اخٍ كريم". لقد هيأ محمد الأرضية الصلبة لإعلان نبوته بما عُرف عنه من فضائل كانت محط إعجاب وثناء المحيطين به. وبعيداً عن الجانب الديني علينا أن نتأسى بمهنية محمد في ذلك الوقت الذي كان يُعد النهب والسلب فيه غنيمة وشجاعة، مستخلصين منها الدروس والعبر. ومنها: اننا لكي نبدأ بمحاربة الفساد علينا أن نبدأ بإصلاح النفس أولاً ثم إصلاح الآخرين، والإصلاح لا يمكن أن يكون دفعة واحدة، بل تدريجياً شيئاً فشيئاً حتى يستطيع المصلحُ أن يُثبَّت أقدامه ويغرس في نفوس ابناء المجتمع الثقة به، فينال احترامهم وتعاونهم، في سبيل تهيئتهم نفسياً وعملياً لقبول المصلح والإصلاح والنجاح في أداء المهمة.
وهنا نتسأل اين نضع الاحزاب الاسلامية امام هذا النهج المحمدي الذي وضع الاسس الصحيحة والعادلة لبناء دولة المؤسسات ...وماذا نفسر توزيع المناصب التنفيذية المهنية مثل ( المحافظ او وكيل وزارة او مستشار او مدير عام) حسب المحاصصة الحزبية وكيف بمرشح الاحزاب الاسلامية حين يتولى منصب تنفيذي وهو لا يفقه ادارته ويصبح اداة تحت يد مدير مكتبه او أي موظف صغير في مكتبة وهل سأل احدهم عن الحكم الشرعي الذي يجيز له استلام راتبه!! وهو يعيش في خدعه بانه صاحب منصب كبير يتباهى فيه امام الناس وهو يعلم علم اليقين بانه غير مؤهل للمنصب الذي يتولاه والذي على اثره يترتب فساد اداري ومالي وحرمان المواطن من الخدمات الاساسية لحياة الانسان ومن الظواهر الغريبة في هذه الأيام ان بعض المسؤولين الحكوميين ولا سيما الاسلاميين أو أعضاء البرلمان من قادة الكتل الممثلة في الحكومة، يطالب الحكومة بمحاربة الفساد، وينسى دوره وواجبه أو انه جزء من هذه الحكومة. ان دولة المؤسسات التي يطالب بها الجميع، تبدأ من المناصب المهنية والمتمثل بالمديرين العامين والمستشارين والمحافظين و وكلاء الوزراء وذلك بعدم شمولهم بما يسمى التوازن السياسي ( المحاصصة الحزبية) ويكون المعيار الوحيد هو النزاهة والمهنية المبينة بسنين الخدمة والخبرة، وليس من الوزراء أو حتى رئيس الوزراء على اعتبار ان هذه المناصب سياسيه، فهؤلاء كلهم ذاهبون وأطولهم عمراً حكومياً يبقى دورة كاملة أمدها أربع سنوات ووان كان لبعضهم البقاء اكثر من دورة، أما اصحاب المناصب التنفيذية المهنية فإنهم باقون في منصبهم حتى سن التقاعد وكذلك مدير الهيئة أو رئيس القسم، وهؤلاء هم من يبني الدولة ولو اقتدى كل منهم بمهنية محمد (صلى الله عليه وآلة وسلم) وحصّن شركته من عبث الفاسدين وكان نزيهاً بنفسه لاستطاع أن يبني دائرته، ومن ثم يبني دولة المؤسسات، وهذا العمل يبدأ من اختيار العناصر النزيهة الكفؤة في رئاسة القسم والشعبة، وهي من مهام المسؤول المباشر وليست مهام رئيس الوزراء أو الوزير، كونه أكثر احتكاكاً بهؤلاء ومعرفة بأمانتهم وقدراتهم، متخذين من سيرة الرسول المشرقة قبساً نسير في هداه
لكي يكسب السياسي الاسلامي عند الناس صفة الصادق الامين وليس الكاذب السارق!!.