حكاية السيد القرغيزى ..... فكم قرغيزيا كان ولا يزال بين ظهرانينا الآن؟!

 

العراق تايمز: كتب ناصر الياسري..

نشرت بعض مواقع التواصل الاجتماعي صوره لأحد قتلى الدواعش وظهر أنه غير (مختون) وبالرغم ان الختان ليس سنة من سنن الاسلام بل دخلت اليه من الديانه الموسويه ولكن في الوقت نفسه ان عدم الختان لا تبطل اسلام المسلم غير انها تفسد عليه الطوفان حول الكعبه!.

ولكن في مثل هكذا ظروف تداخلت فيه الخنادق وظهرت فيه الحركات السلفيه التكفيريه التي جمعت مقاتليها من شتى بقاع الارض بحجة اقامة الخلافه الاسلاميه فيجدر بنا التمحيص والتدقيق لهكذا ظواهر لان ما يجرى حولنا هو عباره عن مؤامره تستهدف ديننا وتاريخنا وحضارتنا وإنسانيتنا!.

هذه الصور أعادة بذاكرتي الى صديقي علي الذي جمعتني واياه زنزانه واحده فى دائرة الاستخبارات العسكريه فى الكاظميه فى مطلع الألفيه الثانيه للميلاد.

هو بسب اجتيازه الحدود وانا بدعوه كيديه!!.
كان عليا حلو المعشر فكها سريع البديهيه اسلاميا معتدلا ينحدر من مدينة النجف، كان هاربا من الخدمه العسكريه فأراد التسلل الى السعوديه للعمل هناك فتم القبض عليه من قبل خفر الحدود السعودى وتم تسليمه للجانب العراقى.!! بعدها تم تسفيره الى مديرية الاستخبارات العسكريه للتحقيق معه كونه عسكريا هاربا حاول اجتياز الحدود.

كنا فى الزنزانة المرقمة (11) فى الشعبة الخامسة والأربعين وكان معنا ثلاثة آخرين، أى كنا خمسة أشخاص،  انا من كربلاء وعلي من النجف واحمد من الفلوجه وشوكت من بعقوبة وهاشم من العمارة.

فى وضع كهذا وفي مساحه لا تتجاوز (2,5x 2,5 م ) تتلاشى فيه الخصوصيات بعد ليله او ليلتين من التوقيف وبعد ان يطمئن فيها كل نزيل الى رفقائه!!.

كنا نقضى الليل كله فى سرد الحكايات .... انا شهرزاد والمستمعين كلهم شهريار!!.

كانت الحكايات تتوالى حتى تباشير الصباح حين ذاك اخلد الى النوم والباقين يؤدون طقوس عباداتهم كلأ على مذهبه سوية !!
ان من خصائص المحاجر الصغيرة كالتي تجمعنا أنها لا يمكنك ان تسر أحدا بأي موضوع دون ان يعلم به الآخرين !! فضيق المساحة لا تسمح لك بسرد الإسرار لأحد دون غيرهم!.

مضت الأيام والأسابيع والأشهر وتوطدت العلاقات فيما بيننا نحن الموقوفين غير إنني كنت أحس ان لدى صديقي النجفى سرا يريد ان يبوح لى به .. ! لكن كيف .... لايعرف؟!.

كانت فترة ما بعد الغداء هي الفرصة الوحيدة التى يمكن فيها الاختلاء مع صديقي حينما يخلد الآخرين الى النوم الذى حرموا منه نتيجة سهرنا الطويل.

أسندت ظهري الى حائط الزنزانة مستلقيا على كتفي الأيسر وهو فى قبالتى ممتدا ومستندا على جهته اليمنى، بعد ان علا شخير البعض أو انتظم تنفسهم وهو دلاله على نومهم العميق !! تدانى رأسينا ... ثم اقترب مني أكثر .. حينها تكلم همسا.

قال علي: حدثني والدي رحمه الله قال (فى مطلع الثلاثينات من القرن الماضي كنت فى الصحن الحيدرى في النجف منتظرا آذن المغرب وإذا بشخص يحمل ملامح شعوب شرق آسيا يجلس بجانبي بعد ان سلم عليّ بلسان عربي ولكن بلكنة أعجميه مثلما كنا نسمعها ممن يدرسون فى الحوزة العلمية فى النجف من الجاليات الإسلامية وهم كثر، وبعد الانتهاء من الصلاة وددت ان أتحدث إليه ... فتبين ان الرجل سيد و من نسل الفاتحين العرب المسلمين ومن الشيعة ألاثني عشريه وينحدر من جمهورية قرغيزيا الإسلامية وقد حضر الى هنا من اجل إكمال دراسته الحوزويه فرحبت به أيما ترحيب وطلبت منه بعد الإلحاح ان يكون ضيفي هذه الليلة).

توطدت علاقة والدي مع هذا السيد القرغيزى .. فأسكنه في دارا لنا متروكة فى محلة (الحويّش) بعد ان تم ترميمه وكانت والدتي تعد له طعام الفطور والعشاء كل يوم بينما كان يتناول وجبة الغداء فى فترة فرصه الدرس إثناء تلقيه دروس الحوزة .. وكان والدي هو الذي يقوم بإيصال الطعام للسيد القرغيزى يوميا!.

أدركت السيد القرقيزى فى مرحله الستينات حين بلغت السابعة من عمري حيث توليت إيصال وجبات الطعام اليه بواسطة (السفر طاس) بدل من والدي والذي كان يوصيني به خيرا.

كنت اطرق الباب فيأذن لى بالدخول فأجده منكبا على القراءة او الكتابة وهكذا دواليك وعبر اكثر من عشرين سنه دون انقطاع الا لماما!!.

كان السيد القرغيزى مستمرا على هذا المنوال ... يفطر صباحا ... ثم يعود عصرا ويبقى داخل البيت بعدها يتعشى ثم ينكب على الدراسة والبحث وقلما كان يذهب الى الصحن الحيدرى عكس اقرأنه الذين كانوا يقضون المساء داخل الروضة الحيدريه فى التشاور والحديث والنقاش والتعارف!.

توفى والدي فى مطلع الثمانينات وكان قد كتب بوصيته ان نعتني بالسيد القرغيزى وأن يكون الدار الساكن فيه السيد الضيف وقفا ذريا .. حينها كان هذا الضيف قد مر عليه ما يقارب الخمسين عاما على ضيافته .. دون ان يغادر مدينه النجف ودون ان يزوره احد او زارا أحدا أو استضاف أحد!!.

كنت مستمرا فى أداء واجبي اليومي فى إيصال الطعام الى السيد القرغيزى دون انقطاع إلا بعض الأحيان وكنت أوصى احدهم بأداء هذه المهمة.

وحين اندلعت الحرب العراقيه الايرانيه فقد دعيت لآداء خدمة العلم لهذا اوكلت المهمة لأحد شقيقاتي والتحقت بالجبهة.

كانت الحرب الضروس مشتعلة .. وقد انستنى السيد القرغيزى فلم اعد اسأل عنه إثناء إجازتي الا قليلا!!.

وفى إحدى الإجازات نبهتني والدتي بان السيد القرغيزى غير موجود فى الدار منذ يومين فلقد كانت شقيقتي تطرق الباب دون يرد عليها احد فتعود إدراجها وهى تحمل الطعام . وقد أخبرتني شقيقتي ان الباب ليس مغلقه من الخارج كما هو معلوم لمن يرد مغادرة الدار!؟.

ارتديت ملابس على عجل وكأني تذكرت وصية والدي حينها .. وحين وصلت الدار فكان الباب غير موصد من الخارج كما أخبرتني شقيقتي ومعنى هذا ان السيد القرغيزي موجود بداخلها حتما ........ والاحتمال الأكثر انه متوفى، لكن لم اشم أي رائحة عفونة لجسد متوفى منذ أمد!!.

طرقت الباب ... فلم يرد السيد القرغيزى كما كان يفعلها معي فى كل مره كنت فيها احمل الطعام إليه.

دفعت الباب بقوه فنخلع رتاجها ... دخلت الدار متوثبا ومتحسبا فلم اجد احدا بداخله كان باب الغرفة الوحيدة مواربا فأدلفت داخلها فكانت المفاجئة المتوقعة؟.

كان السيد قد توفى وكان منحنيا على كنبه صغيره وقد تساقطت عليه بعض الكتب وبقى على هذه الحالة لحين دخولي عليه .. لم اعرف سبب الوفاة هل كانت بسبب الكتب التى سقطت عليه ام من سبب الشيخوخة والتي تجاوز الثمانون عاما او أكثر؟؟
عدت ادراجى بعد ان غلقت باب الدار وذهبت لأخبر أهلي بذلك والبحث عن من يعاونني فى إتمام مراسيم الغسل والدفن .

حملنا نعش السيد القرغيزى بمعاونة بعض الأصدقاء الى مغتسل (بير عليوى) وأخبرت المشرف على غسل الموتى ان المتوفى اعرفه شخصيا ويدرس في الحوزة وليس له احد غيري وليس لديه أي أوراق ثبوتية وطلبت منه تدارك الأمر و إتمام عملية الغسل والتكفين بأسرع وقت ممكن من اجل الالتحاق بالجبهة نظرا لانتهاء فترة اجازتى الدورية هذه الليلة وبعد ان ألقمته ببعض الدنانير!!.

كنت واصدقائي مجتمعين فى فناء المغتسل منتظرا انتهاء مراسيم الاغتسال والتكفين حينما نبهنى احدهم ان المشرف على أداء الاغتسال قد طلب مني الحضور شخصيا الى دكه غسل الموتى .. فتوقعت ان مهمته قد انتهت او قاربت الانتهاء .. فذهبت اليه مسرعاً فوجهته واقفا بجوار جثة السيد القرغيزي المسجاة على دكه غسل الموتى .. انتحى بى جانبا وهمس فى أذني .... (هل أنت متأكدا من ان هذا الرجل تعرفه عن قرب؟!)

فأجبته مرتبكا.. نعم .. نعم !!
اعاد السؤال ولكن بصيغه أخرى (هل صديقكم هذا مسلم؟!)

سحبني نحو الجثة المسجاة ... ثم كشف عن (عورة) السيد القرغيزى فكانت المفاجئة غير المتوقعه ان الرجل غير مختون!!.

رجوت منه إخفاء الأمر والإسراع فى إتمام عمليه الغسل والتكفين، عدت الى اصدقائى مرتبكا بعض الشيء .. وطلبت منهم الاسراع فى حمل النعش وكان مكان القبر غير بعيد عن المغتسل. 

أكملنا مراسيم الدفن .. وعدت الى المغتسل مرة أخرى واختليت بالمشرف على الاغتسال ورجوت منه بطى صفحة هذا الموضوع وكأن شيئا لم يكن لان الوضع لا يتحمل التأويل!.

رجعت للبيت وانا متعبا جدا .... أخفيت هذا الموضوع حتى عن والدتي لكن كنت قلقا بما تركه السيد القرغيزى من إسرار داخل بيته، فعدت ادراجى إليه كى استوضح الحقيقة المخفية طوال خمسون عاما مضت.

دخلت الغرفة الشبه مظلمه والتي كانت فى الماضي يضيئها لبابه فانوس نفطي نفذ وقوده منذ ازل غير بعيد!!.

وعلى ضوء مصباح يدوى رحت اكتشف الحقائق الرهيبة أكوام من الأوراق التى خطت باللغة الانكليزية!!.

اهتزت فرائصي وجف ريقي .... جمعت الأوراق على عجل محاولا احراقها قبل ان يكتشف أمرها وخاصة وان الحرب العراقية الإيرانية قد دخلت فى منعطف حاد بعد ان استرد الإيرانيون مدينة المحمرة، وبارتباك واضح صببت صفيحه من النفط علي كومة الأوراق التى جمعتها فاشتعلت النيران فيها لتمتد نحو الغرفة وتأتى على ما فى داخلها!!.

خرجت من الدار وأنا أتابع اللسنة اللهب وهى تتصاعد منه وكأن هما ثقيل كان يجثو على عاتقي قد أزيح!!!.

سكت صاحبي عن القول الغير مباح ... بعد ان جف ريقه.

نهض وارتشف قليلا من الماء ثم عاد الى مكانه جوارى، ثم قال: هل تعلم يا سيدي ان هذا الموضوع لا يعلم به الا الله و انا وصاحب المغتسل وانت.

وحينما نهضت وجدت الجميع ينصت لرواية السيد القرغيزي!!.

والآن أتسائل ...

كم قرغيزيا يعيش بين ظهرانينا الآن معشعشاّ فى سراديب وأقبية خفافيش الليل فى النجف!؟.