نعم ، القوش اليوم تبدو وكأنها ترتدي حلتها الحزينة ، فأتساءل اين فرحها ؟ صحيح للقادم من بعيد تبدو المدينة في حضن جبلها رابضة بحنان وهي مكللة بالأشجار الباسقة لكن حين الوصول الى القوش تشاهد ان ابتسامة اهلها المعهودة قد اختفت وراء تراكم الوقائع المؤلمة ، صحيح كانت هناك مأساة كبيرة وحملة إبادة بالنسبة لأخواننا الإزيدية ، ومن بعدهم كانت مأساة ومظالم اهل الموصل المسيحيين من كلدان وسريان ، ومن ثم كانت نكبتهم يوم احتلال مدنهم بغديدا وكرملش وبرطلي وتلكيف وباطنايا وباقوفا وتلسقف واضطرارهم للنزوح من مدنهم وبلداتهم ، وبلمح البصر فقدانهم كل شئ ، والقوش لم تكن بمنأى عن تلك الأحوال حيث اضطر اهلها الى تركها والنزوح نحو كوردستان وكان ذلك يوم 5 و6 من شهر آب المنصرم . التقيت بمجموعة كبيرة من الأصدقاء ومنهم الصديق العزيز بطرس قودا ، وقال بقي عشرة ايام مع عائلته كنازحين في إحدى القرى ويضيف ان تلك الحياة لا تطاق لأنك في كل الحوال مجبر عليها ، وكم يملؤ صدرك الألم حينما تترك بيتك وكل ما تملك وتصبح في لمح البصر نازحاً وتصبح من الذين يتلقون المساعدات الأنسانية ، كم يؤلمك ذلك اخي حبيب ؟ اجل ان ذلك مؤلم و الشئ بالشئ يذكر عن الصديق الأستاذ بطرس :
حينما كنا تلاميذ في الصفوف الأبتدائية ( في العهد الملكي ) كانت الكتب والقرطاسية توزع مجاناً للفقراء واليتامى ، وكنا نعمل شهادة فقر موقعة من المختار ، نسلمها لإدارة المدرسة ويوم توزيع الكتب ، استلمنا الكتب دون مقابل ونحن جميعاً يغمرنا الفرح باستثناء التلميذ بطرس عيسى قودا لأنه كانت يتيم ، واستلم الكتب مجاناً ، فقد وصل الى البيت باكياً ، وتسأله امه عن سبب بكائه ، فيقول لها : هل نحن فقراء يا امي ؟ فتجيبه الأم : كلا يا ابني من قال لك نحن فقراء ، فأجاب : إذن لماذا اعطيت لي كتب مجاناً ؟ وهنا اخذت الأم التلميذ بطرس مع الكتب الى ادارة المدرسة ودفعت ثمنها امامه للإدارة مقابل وصل استلام ، واقتنع التلميذ بطرس انه ليس من عائلة فقيرة .
ونبقى قليلاً مع الصديق الأستاذ بطرس عيسى وهو خال الوزير المسيحي الكلداني فارس يوسف ، فيقول :
قبل يومين اتصلت به ( الوزير ) تلفونياً وابلغته بمشكلة كبيرة في القوش ، وهي ان محصول حبوب الحنطة لهذه السنة لا زال مكدساً في مكانه في العراء تحت السماء والشتاء على الأبواب ، وينتظر تسويقه لكي تشتريه وزارة التجارة ، ويضيف ان الوزير فارس فعلاً اجرى اتصالاته مع ذوي الشأن بضمنهم وزير التجارة الذي وعد باتخاذ الأجراءات اللازمة بأسرع وقت ممكن ، لأن الظروف استثنائية في المنطقة .
كثير من الأصدقاء الذين يصادفوك يفاتحونك بقولهم : لماذا قدومك الى القوش يا حبيب ؟ نحن نريد المغادرة وأنت ماذا جاء بك في هذه الظروف . والجواب الروتيني : ليكن حالي من حالكم ومصيري مثل مصيركم ، ولبعضهم اضيف :
إن القوش اجمل واحب منطقة في الوجود الى قلبي ، الا يقطع العاشق الوديان والجبال والشعاب والصحاري ويتحمل الصعاب من اجل حبيبته ؟ وهل احب حبيبتي في اوقات السلام وابتعد عنها اوقات الشدة ؟
في اليوم الذي وصلت مساءً كانت شمس الغروب تستعد للدخول في خدرها هناك في الأفق البعيد لتودعنا بخيوطها الذهبية الطفيفة مخترقة الغيوم الصيفية التي ترسل امتداداتها نحو الشمال حيث جبل القوش الخالد فتحوم فوقه وكأن هناك تنافساً بين الجبل والغيوم من اجل السمو والترقي ، إنها صورة طبيعية تسحرني وتزاد سحراً حينما يمتزج التاريخ بالجغرافياً فإن وصلت الى القوش وانتقلت في ازقتها لتصل الى مدرسة مار ميخا النوهدري والى مرقد النبي ناحوم الألقوشي والى محلة سينا ومحلة قاشا ومحلي ختيثا ومحلة اودو ، فيزداد تعلقك في المكان كما قلت ويبدو ان ظلمة الليل لها خصوصيتها فحلول الظلام لا يعني رقود الحياة ، فإن اخذنا بمقاييس شبابنا وطفولتنا حيث لا تلفزيونات ولا راديوات ولا كهرباء.. بل فوانيس ولمبات وسراريج او اسرجة ( جمع سراج= شراءا) ، وكانت على ضوئها تعقد حلقات وتحكى حكايات وتطرح حزورات وهكذا ،واليوم هناك النوادي والبارات والقهاوي ..
كل من يصادفك يجاملك بأن كل شئ على ما يرام ولكن حين مواصلة الحديث ، سوف تكتشف الحزن والوجوم بادياً في اعماقه ، وهو لا يستطيع إخفاءه . حينما تسير في ازقة القوش القديمة حيث يفوح عبق التاريخ وعطره ، او في شوارعها في القوش الحديثة حيث الحداثة والفخامة للبيوت الجديدة ، وتلتقي بناسها تقرأ في عيونهم وعلى وجوههم سيماء الحزن ، وكأن شيئاً عزيزاً قد فقد من هذه المدينة التاريخية او هو خوفهم المشروع على ماسّتهم النفيسة ، فمظاهر الترقب والخوف من المجهول وما يضمره المستقبل ، إنها عقدة ليس الى حلها سبيل في القريب العاجل .
في اليوم الأول التقيت بمعارف وأصدقاء التقيت بهم عن طريق الصدفة ، في محل للتسوق ، اسواق ( زرا) العامرة ومعظم الأسواق في القوش هي كذلك ، رأيت انها شبه خاوية وصاحبها يقول بأنه يعمل على تصفيه اسواقه ، لأنه ازمع على الهجرة ، وإن هذه الأرض لم تعد تتسع لنا ، لقد كان هذا المحل كما يقولون في القوش ( قّاطي ديوا وسيما ) وكان المثل يضرب لمن له مهنة من قبيل : نجار ، حداد ، خياط ، اسكافي ، حائك ـ مبيضجي ـ اي صفار .. الخ لأن المهنة تقطع ذهباً وفضة .
التقيت بالأستاذ جميل حيدو في قاعة مارقرداغ في القوش حيث كانت اربعينية الصديق المرحوم المهندس جرجيس حبيب حيدو ، وعزا وفاته الى تلك الظروف وقد دفن في عنكاوا لأستحالة نقله الى القوش في تلك الظروف ،وحدثني الأستاذ جميل حيدو بانهم توجهوا يوم 5 آب نحو دهوك وبعد الأتصال بأحد اصدقاء ابنه حصلوا على بيت فارغ مؤثث في شيوز ( شيزي) فسكنوا به ليصل عددهم في البيت 35 شخص ، يقول كان بجوار البيت هياكل بيوت مسقفة وحين نزوح ايزيدية من جبل سنجار اسكنوا في تلك الهياكل ويقول تعرفت على احدهم واسمه خديدة الذي سرد لي احداثاً عجيبة من الأعتداء على اعراض الناس وقد سرد بعضها لي الأستاذ جميل لكن من غير المناسب إدراجها في هذا المقال ..!!!
لكنه يضيف من طريف ما حدث ونحن في تلك الظروف خابرني خديدة في ساعة متأخرة من الليل يقول : بأن زوجة ابنه قد ولدت طفلاً في هذه الساعة ونحن محتاجين الى بعض الملابس لهذا الطفل الذي اقبل الى الدنيا في هذه الظروف : فيقول جميل لأبني طفل بعمر ثلاثة اشهر اخذنا مجموعة من ملابسه مع حفاظات الطفل وأخذت نسائنا تساعد الأم . ويختم استاذ جميل حديثه : رغم اننا كنا في البيت لكننا شعرنا وكأن كابوساً يخيم على صدورنا ، الى ان رجعنا الى بيوتنا .
لقد سمعت قصص كثيرة عن النزوح لكن معظمهم او جميعهم يؤكدون ان مضيفهم او جيرانهم كانوا كرماء ولطفاء معنا وحدثتني نازي شموئيل زوجة المرحوم عمي كريم تومي الذين نزلوا في اينشكي ان اهالي القرية استقبلوهم بمودة قدموا لهم لعون اللازم ، وكنا سعداء سعداء في هذه القرية وكأننا في بيوتنا ونحن مدينين لهم بهذه الضيافة الكريمة .
هنالك موضوع الهجرة الذي يستعد له معظم ولا اقول الجميع ، عائلة كبيرة اعرفها سافروا الى بغداد للحصول على جوازات سفر ، عوائل كثيرة تعود من تركيا لأن الأنتظار طويل يصل الى سنة 2020 وهم يشدون الرحال نحو الأردن او لبنان ، العنصر المتحمس في هذه الهجرة بين افراد الأسرة هي الزوجة ، والرجل ( المسكين ) في معظم الأحوال يبقى معترضاً ، لكن في الآونة الأخيرة لم يعد اعتراضه ذي قيمة ، فيمكنه ان يمكث في البيت ( فهذه مشكلته ) فأفراد الأسرة يعرفون الطريق ، وقد وصل الأمر في بعض العوائل الى مشاكل جدية بين الزوج والزوجة .
بعض من هم مصرين على البقاء مثل الأخ نادر يشكو ويقول بأن وضع القوش سيكون ضعيفاً بعد ان يهجرها معظم ابنائها ، إنه يتكلم بحزن وألم ولا يريد مغادرتها مهما كلف الأمر وفي الحقيقة ثمة شريحة لابأس بها مثل نادر .
لقد كانت صورة الهجرة ( النزوح) في البداية شاملة وكاسحة فحينما هاجر اهل القوش وتلسقف وباطنايا وباقوفا الى دهوك مثلاً كان اهل دهوك قد سبقوهم في النزوح الى مناطق نحو الحدود او الى تركيا وهذا ينطبق على القرى والبلدات المسيحية في محافظة دهوك ، اليوم في القوش عدد من عوائل باطنايا وتلسقف قد استأجروا البيوت في القوش . ويقوم الألاقشة بالخفارت الليلية ويدير الحراسة منظمة الحزب الشيوعي في القوش ، وينبغي ان نعترف ان المنظمة الحزبية الوحيدة التي بقيت في القوش وظلت ابوابها مفتوحة ونظمت الحراسات المنتظمة والى اليوم ، شكراً للقائمين على هذه المنظمة الشجاعة .
بقي ملاحظة مهمة اختم فيها مقالي :
أفاد بعضهم : بأن القوش لم يصادف ان توقف ناقوسها عن الضرب في يوم من الأيام ولمدة 2014 سنة ( هذا كلام مجازي ، والصحيح هو منذ دخول المسيحية الى القوش ) ولكنه لأول مرة يتوقف ولمدة عشرة ايام وبعدها عثر على مفتاح الكنيسة عند الصاعور ليستأنف ضربه والتاريخ والفضاء يرددان صدى دقات ورنات ناقوس كنيسة القوش .
|