يعد سلوك التظاهر والاعتصام من الممارسات الديمقراطية الحقيقية التي كفلتها الدساتير الديمقراطية, وأتاحت للمواطن فرصة التعبير عن آرائه بأكثر الطرق مباشرة وتأثيرا على صناع القرار، إلا إن هذا السلوك قد يتحول إلى ظاهرة متأصلة ومستمرة على نحو قد يعطل مسيرة "التحول الديمقراطي" إذا ما اعتبر صناع القرار إن حق التظاهر هو للتظاهر وحسب, وليس للمعالجة والإصلاح كما هو الحال في العراق, وهذا ما يجعله بيئة خصبة لنمو الأزمات وشيوع الاضطرابات وتعطيل الحياة العامة, ويؤثر بالسلب على استقرارية الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية للدولة, ويفتح الباب على مصراعيه للتدخلات الخارجية للعبث بأمن البلاد.
تظاهرات الغربية أو "تظاهرات السنة" كما يحلو للبعض بتسميتها, دخلت شهرها الثالث وسقف المطالب يزداد باضطراد بعد فشل الحكومة من احتواءها بالحكمة والحنكة السياسية والنظر في الطلبات المشروعة منذ البدء لإجهاض محاولة الانتهازيين من الغرماء السياسيين والغلاة الموتورين من التسلل بين المتظاهرين وتوجيههم, وأغفلت انه من المحال لأي طرف من الأطراف سواء أكان محليا أو إقليما أن تكون له القدرة على تجييش الجماهير وتسييسها للتظاهر والاعتصام ما لم تكن هنالك مطالب مشروعة وتذمر واستياء عارم بلغ ذروته إلى درجة الإحباط وفقدان الأمل, بعد انانشغلت الحكومة لعوامل عديدة بأزماتها واشغلت نفسها بها, وأهملت إدارة البلاد وظلت قابعة تحت تأثير "العبء المفرط" للمطالب الكثيرة للمواطنين في كل أرجاء العراق, وعجزت عن حسم الكثير من المشاكل ليكون هذا "العبء" ذريعة لعدم الوفاء بالتزاماتها, وهذا بالتأكيد يؤدي إلى نمو أنشطة سياسية بديلة كالتظاهرات والاعتصامات, أو الالتجاء إلى وسائل لا سياسية للمواطنين كأعمال الشغب والفوضى بوصفها ردودا مستندة إلى عدم الثقة بقدرة هذه الحكومة على الإيفاء بوعودها, وما يزيد الأمر سوءا هو إن أمر التصدي لمطالب المتظاهرين لم تضطلع به الحكومة ليكون قرارها جامعا لكل الأطراف المشاركة في الحكم لتتحمل كافة الأطراف مسؤوليتها التضامنية إلى ما آلت إليه الأمور, وانبرى ائتلاف دولة القانون والحلقة الضيقة المحيطة برئيس الوزراء كنوع من الاستئثار بالحكم للتصدي لهذه التظاهرات, وكانت هذه الحلقة كالعادة أقوالهم تسبق أقوال وأفعال رئيس الوزراء التي اعتدناها أن تكون صدى لتصريحاتهم الهوجاء المؤججة, لجهلهم التام بقراءة ما بين السطور واستقاء العبر من الأحداث الجارية في محيطنا العربي وحجم التدخلات الخارجية التي تسعى لتقويض الأمن وزرع الفتن والاضطرابات بتأجيج الشارع وتوجيهه, ولم تعي ما آلت إليه التظاهرات التي شهدتها الدول العربية وفي احتساب نوع مضاف من التكاليف المترتبة على عدم الاستجابة لمطالب المتظاهرين وإمكانية تحول المظاهرات والاعتصامات نتيجة اليأس والجزع إلى ثورات كاملة, وتحول مطالب المتظاهرين من المطالبة بإصلاحات ضمن النظام القائم إلى المطالبة بتغيير النظام كاملا, حيث يعد الرفض المطلق من قبل الأنظمة الحاكمة لإحداث أي تغيير حقيقي جزئي كافيا لان يكون سببا رئيسيا لتحول الاحتجاجات الشعبية المحدودة إلى حالة ثورية حقيقية، مع توافر عوامل أخرى تتعلق بالشعور بالمعاناة والظلم والشمولية في حركة المحتجين, بالإضافة إلى كون الرفض أو التجاهل من قبل الحكومة ليس وليد اللحظة، وإنما نتاج تراكمات سابقة عديدة تفاقمت إلى الدرجة التي تصبح بها عاجزة تماما على الإيفاء بمطالب المتظاهرين وزرعت في نفوسهم اليأس .
وفي الوقت الذي بدا واضحا مدى قدرة وتأثير القوى الإقليمية على تسيير أحداث التظاهرات وتوجيهها وارتباط قيادات سياسية ودينية فاعلة ارتهنت إراداتها بالمشاريع "التركية - القطرية", فان رئيس الوزراء وائتلافه لم يسعيا إلى نزع فتيل الأزمة وتحييد المندسين, وانتهجوا سياسة المجابهة والإجراءات المتضادة أي معالجة الأزمة بخلق أزمة أخرى, وتجييش الشارع بشعارات طائفية لا تختلف عن شعارات تظاهرات الغربية, والانكى من ذلك وسعيا لاستجداء تأييد الشارع سعى ائتلاف دولة القانون لتوظيف الاستياء الشعبي لمحافظات الوسط والجنوب نتيجة الفشل في توفير الخدمات ونيل الحقوق الذي تسبب به رئيس الوزراء وائتلافه لصالحهم بطريقة ساذجة, ولا ندري ما الذي كان يمنع رئيس الوزراء ومحافظيه وهم جلهم من دولة القانون من تقديم الخدمات لسكان الوسط والجنوب ليجمعهم محافظ بغداد ويطالب بحقوقهم وخاضوا في أمور ليست من اختصاصهم ولا هي من صلاحياتهم, وما الذي كان يمنع رئيس الوزراء من منح حقوق السياسيين من السجناء والمفصولين وأسرى معسكر رفحاء وأين ذهبت التخصيصات المالية المخصصة لهم والتي نسمع بها سنويا إلى الدرجة التي تصورنا انه لم يبقى متضرر من النظام السابق إلا ونال حقه ؟ إنها أعباء إضافية, أضافها ائتلاف دولة القانون لحكومة زعيمهم المنهكة, ومن العسير عليه الآن أن يعالج أزمة المتظاهرين دون علاج أزمة الحقوق التي أثارها مقربيه وقيادييه.
إن قراءة متأنية لازمة التظاهرات لخلية كفوءة ومتخصصة في التعامل مع الأزمات كان كفيلا بان يفضي إلى تلمس رأس الخيط الذي يقود إلى أسباب الأزمة ومعالجتها, والاعتماد على أطراف من التحالف الوطني مقبولة من الجانب الآخر وغير منحازة لمواقف دولة القانون في التفاوض كان يبدو ضروريا لتهدئة الوضع, أما الاعتماد على آراء مجموعة ثرثارة من المقربين لا تعي ما تقول ولا يهمها ما ستؤول إليه الأزمة, فهذا يعني انه ليست هنالك رغبة حقيقية في إنهاء الأزمة, والتعمد في إبقاءها للتذرع بها, فالأزمات هي البيئة المثلى لديمومة بقاء الحكومات الفاشلة.
خالد الخفاجي/
رئيس الرابطة الوطنية للمحللين السياسيين