قال الله تعالى شأنه ( ن والقلم ومايسطرون , وما انت بنعمة ربك بمجنون , وان لك لاجرا غير ممنون , وانك لعلى خلق عظيم )
وقال الرسول ص ( انما بعثت لاتمم مكارم الاخلاق ) وقال ص , عندما سأل عن الدين , ( الدين المعاملة ) ثلاثا ,
ويقول الحديث ( لكل دين خلق , وخلق الاسلام الحياء , فان لم تستحي فافعل ماشئت )
ويقول الشاعر ( انما الامم الاخلاق مابقيت *** فان هم ذهبت اخلاقهم ذهبوا )
والاخلاق بشقيها العملي واللفظي المرتكز الاساسي لكل دين ولكل قانون وجد على هذه الارض , فلا يوجد نهج سماوي كان او ارضي الا والاخلاق اساسه اوركيزته الاساسية , فكل النواميس والقوانين الموجودة في السابق واللاحق ماخوذة من الاخلاق ,
والاخلاق احد الاساسات الاربعة للحضارة , فلايمكن ان تكون هناك حضارة بدون الاخلاق , وتصنف الاساسات للحضارة بالمنظومات الاربعة
( الاخلاقية , العلمية , الاقتصادية , العسكرية )
فالمنظومة الاخلاقية , تتكون من الدين والقوانين والسياسات والمعنويات ,
والمنظومة العلمية, تتكون من العلوم كافة كالدراسات والترجمات و التجارب ,
والمنظومة الاقتصادية , تتكون من الصناعات والتجارات والزراعة ,
والمنظومة العسكرية , تتكون من الجيوش والعلوم الحربية لحماية المنظومات الاخر ,
ومن المهم ذكر ان الاخلاق موجودة بشكل قسري في عمل المنظومات الثلاثة , ولا يمكن الاستغناء عنها في الحالات الطبيعية الايجابية , وان تم الاستغناء عن الاخلاق في عمل ما لتلكم المنظومات ستكون النتائج سلبية غير صحيحة لعدم وجود الضابطة الكبرى للعمل وهي ( الاخلاق )
بعد هذه التوطئة , نقول ان الامس القريب كان يزدحم بمعاني الاخلاق , من سماحة ونجدة المظلوم والايثار وصلة الرحم وحقوق الجار وكلمة الحق والمسارعة للخيرات وغيرها من معاني الاخلاق في مجتمعاتنا , فلا ترى مدينة او قرية الا وكانت هذه المعاني موجودة على نحو الكثرة والعموم , بل وتصل في بعض الاحايين الى حد السجايا الذاتية للافراد والجماعات ,
فقد كانت هذه المعاني الجميلة هي العنوان الاول في التعامل اليومي بين افراد المجتمع العراقي الا ماشذ وندر , فالجو العام انذاك مشحون بالقيم العالية والمعنويات والمحبة والاصلاح , وكانت هي السمة السائدة بين الناس , ومن يعمل بخلافها لا يجد المكانة الطبيعية و الاحترام والتقدير عند الاعم الاغلب من الناس , فقد كان يقيَم الانسان بميزان الاخلاق والسجايا الحسنة و نفع الاخرين بالعمل والقول ( خير الناس من نفع الناس ) , مع وجود القضايا المادية وحب الذات والنزعات الشحصية , الا انها كانت تأتي بالعنوان الثاني , وليس الاول , فقد كانت المنظومة الاجتماعية اكثر ضبطا واشد احكاما بوجود رجالات تحمل ملكات عالية , تنشر الفضيلة وتثبت العدل بكلمة الحق والوجدان , تعطي من مالها ومن وقتها ومن صحتها ومزاجها للاخرين الكثير الكثير ,
والامثلة والشواهد كثيرة , نذكر منها ,,,,
الحاج المحسن سعيد وعد الله , كان رحمه الله تاجرا مؤسرا معروفا بالكرم والسخاء واصلاح ذات البين والنجدة والايثار , فقد كان يقرء الضيوف بالمئات و بالالاف من حجاج بيت الله الحرام ومن غيرهم , واخباره فاقت الافاق عند اهل العراق والسعودية وتركيا , وقد اخبرني احد اقاربي ممن كان قريبا منه ان احد العراقيين قد فعل فعلا مشينا في احد المدن القريبة من محل اقامة الحاج سعيد في السعودية , فاستدعاه وانبه على فعله واعطاه مبلغ من المال يكفي لشراء بيت بسيط في ذلك الوقت ( السبعينيات ) وقال له ارحل عنا ولاتشوه سمعة العراقين في الغربة , والحاج سعيد رجل تاجر ومن المفترض ان يكون عنوانه الاول المال وليس الاخلاق , لكنه رحمه الله اثر الاخلاق على المال فكان عنده الاول ثانيا والثاني اولا , والانسان اثر بعد عين ,
كان لي ابن عم ( علي صاحب ) رحمه الله كثير المرض والسقم لا يقوى على شدة العمل , متوسط الحال لديه معمل صغير يدر عليه من الارباح مايكفية وزيادة , وكان بامكانه ان يجعل من المعمل معملين , لكنه رحمه الله لم يكن ليجعل الارباح اولا , فقد كان يهتم بالاخلاق العملية كثيرا مع وجود الاخلاق اللفظية ( متدين ) فما من فقير او محتاج يقصده او يسمع بحاجته من غيره الا وقضى حاجته او ساهم في قضائها , حتى وصل الامر الى به من كثر ما يحسن ويعطي الى عيشة الكفاف , وقد شاهدت بعيني ساعة احتضاره وقبض نفسه كيف كان مبتسما فرحا وكأنه قد لقي ما يتمانه ,
كان في منطقتنا رجلا مسنا مشلولا نصفيا , والسبب في شلله انه كان من محترفي السطو والسرقة ( ح , ر ) وهو من عائلة مؤسرة , الا انه فضل الصعلكة على الاستقرار , ومن كثر دعاواه ومشاكله في مدن العراق كبغداد والبصرة وغيرها قرر الزعيم عبد الكريم قاسم رحمه الله ان يشله بــ (ابرة شلل ) حتى يوقف شره وسرقاته ,,,, في يوم الايام تجادلنا انا وصديقي المرحوم محمد جعفر خوير ( محمد ابو عبود ) حول قضية تخص طبيعة عمل السارق المحترف اياه , فلجأنا اليه بالقضاء بيننا , فقضى الرجل برأيه وانتهى الجدال , ثم سألت الرجل هذا السؤال ,, كم مرة سطوت وسرقت في مدينة النجف ؟؟ فاجاب بحرقة وعدم رضا بلهجة متأتة , ( وحق سميك حيدر الكرار ما بكت من النجف ) فقلت له ما السبب ؟؟ , فقال ( مو كلهه عرف , واخاف يشوفني واحد منهم , شنو عذري وشريد اكله ) انتهت ,,,,
فالغريب في الامر ان هذا السارق المحترف يحمل اخلاقا وهو سارق , فلا يسرق اهل مدينه تحسبا لانكشاف الامر, واستحياءا من الذين يعرفونه , فيفضل سرقة من لا يعرفونه ويعرفهم من ابناء المدن الاخرى ,
في الماضي لن تجد سارقا او متحرشا او متسلطا ( شقاوه) يمارس هوايته الوضيعة في منطقته او مع جيرانه , الا ما ندر ,
اخبرني والدي رحمه الله , بان شرطيا معروفا في النجف قد وافه الاجل , وكان ذلك الرجل الشرطي محسنا يسعى في قضاء حوائج الناس , فشيعت جنازته تشيعا كبيرا مهيبا , وفي نفس السنة التي توفي فيها الرجل , توفي الرجل الثري المعروف ( فلان شلاش ) فلم يمشي في جنازته احد من الناس , وقد حمل جنازته بعض الحمالين فقط , والانسان اثر بعد عين .
هذا ما يخص السائد في الماضي من الاخلاق , اما الحاضر فأترك للقاري الكريم تقديره , لان امر شرحه يطول !!!!
وانا لا انكر ان الاخلاق العملية واللفظية في الوقت الحاضر موجودة ومتداولة بين الناس , لكن ليس بالنسبة المعروفة سابقا وذلك الازدحام الذي كانت تعج به مدن العراق كافة , فقد كانت الاخلاق عنوانا اوليا والماديات عنوانا ثانويا الا ما ندر , اما الان فقد اضحت الاخلاق عنوانا ثانويا والماديات عنوانا اوليا الا ما ندر ايضا , واثبات الشئ لا ينفي ما عداه.
|