منظار عبد الكريم قاسم

بين التهويل والتهوين قد تضيع البوصلة العراقية وتتيه عقول أبنائها. أتحدث عن شأن أمني ممتزج بشأنٍ  سياسي، عن حشود تقاتل عدوا وعن عدو يختلط بالناس لدرجة تضيع علينا ملامحه الحقيقية. الأمر سيان، من يهوّل وينشر الرعب عبر التحليلات من أن الإرهاب يحيط ببغداد وهو قادم لها خلال أسابيع لا يختلف كثيرا عمن يهوّن من إمكانيات العدو ويطبطب على ظهور العراقيين قائلا لهم - سهلة، ساعات ونقضي عليهم. ثمة حادثة تلح على ذهني الآن أتمنى ألا تتحول لأمثولة؛ كان أبي غالبا ما يسترجع مشهدا ما بتوجع وجداني ويصفه بدقة. كان هرع يوم ٨ شباط الأسود مع الآلاف لوزارة الدفاع غير البعيدة عن بيتنا في الشيخ عمر، وانضم لجماهير من الفقراء كانوا يطالبون بالسلاح للدفاع عن جمهوريتهم، لكن الزعيم ظهر واثقا أنيقا وهو يطبطب على ظهورهم ويقول : ماكو داعي، ساعات ونقضي عليهم. كان يهوّن من الأمر معتقدا أن عدوه أضعف وأتفه من أن ينال من جمهوريته المنخورة . كان طيبا جدا ولهذا لم يسلّم الناس الأسلحة فسرقه الوقت وفقد المبادرة، وفي الأخير اقتادوه للإذاعة وأعدموه هناك.  
لست من المهوّلين طبعا ولا أنوي إخافة الجمهور لكنني، مع هذا، لا أريد التهوين من المشهد والطبطبة على قلبي القلق بالقول ان بغداد آمنة وهي محمية جيدا. لست كذلك، المنظار الذي أملكه واقعي وهو ينقل لي مشهدا مقلقا لطبول ظلامية تقترب ضرباتها يوما بعد يوم. هذه الطبول مستمرة بالقرع منذ احتلال الموصل، وكلما تطاول بها الزمن أصبحت أكثر انتظاما مما كانت عليه. كيف يمكن التأكد إن كان خطرها قريبا أم بعيدا؟ لا أدري، فالمهوّنون يصدحون في جانب حتى ليكاد الناس ينخدعون بهم، والمهوّلون، في جانب آخر، يصرخون بطريقة هستيرية مخيفة. وبينهما، لا أجد أثرا لحامل المنظار الواقعي، هذا الذي يعرض الصورة بوضوح أمام الأعين ويهمس لها - لا يخدعنك المحللون من الجانبين، فالأمر هو هذا. 
نعم، ما يجري في الأنبار غامض ولا يعرف له "ساس من راس"، هل حقا هم يتقدمون ويضيّقون الخناق على المدن أم هي معركة كباقي المعارك، يكرّ فيها طرف على آخر، ثم يعود الآخر فيستعيد المبادرة؟ ستراتيجيا، أهناك خطر حقيقي على غرب بغداد كما نسمع من المهوّلين أم علينا التهوين من الأمر والعودة لفكرة أن بغداد محمية جيدا؟ 
أسئلة باتت تدوخ الناس حتى أن كثيرين منهم أصبحوا مدمنين على تأمل الخارطة، خارطة العراق التي باتت تتكرر في شاشات التلفزة أثناء نشرات الأخبار؛ لقد تقدموا هناك، تراجعوا هنا، هم يريدون فتح ثغرة في هذا المكان، ابتعد خطرهم عن تلك المنطقة، هيت، حديثة، الكرمة، جنوب بغداد وشمالها، غرب العاصمة، عبارات تترادم ككرات بليارد في حيز ضيق، حيز يبدو شبيها بخارطة يتلاعب بها المهوّلون والمهوّنون، هؤلاء يقولون - الأمر خطير، وأولئك يردون - الأخبار مبالغ بها، وبينهما يقف واحد مثلي باحثا عن منظار واقعي يريحه، منظار لم يجده الزعيم الطيب فأضاع جمهوريته الفتية إلى الأبد. 
أتمنى ألا تتكرر اللحظة.