خارطة طريق لكل ناثر أديب وشاعر أريب

حي الأنفوشي او مقبرة باب البحر، أو حي الجمرك، من أبرز معالم مدينة الاسكندرية في جانبها الشرقي، لابد لزائر هذه المدينة التي تنام على صدر البحر الأبيض المتوسط، أن ينزل بركابه عندها ويتزود من سفرة تراثها، ففي تربتها يرقد عدة من العلماء والمتصوفة والشعراء، ولعلّ أبرزهم العارف والمتصوف شهاب الدين أحمد بن حسن بن علي الأندلسي الخزرجي الشهير بمرسي أبو العباس المولود في مرسيه في الاندلس سنة 1219م والمتوفى في الاسكندرية عام 1288م، فعنده ينزل القاصي والداني من كل حدب وصوب يطلب من الله المراد، وقد زرته ضمن رحلة عائلية في ربيع عام 2010م.

 ولا يخفى أن اسم "مرسي ابو العباس" علق بذهني منذ معرفتي بالأفلام المصرية وأنا بعد لم أبلغ الحلم، وقد أشرت لهذا في واحدة من المقالات، ولكن ما لم أكن أعرفه من قبل انني  فوجئت حين خروجي من الحي بمسجد البوصيري وقد لاحت بجانب بوابته قصيدة "البردة" الشهيرة، فعلمت أن المسجد يعود لشاعرها سعيد بن حماد الصنهاجي المصري الشهير بالبوصيري، نسبة الى مدينة بوصير بصعيد مصر، والمتوفى سنة 1298م، وتحت احدى قبابه يرقد البوصيري في مقبرته التي أصبحت مزاراً للمحبين، وهي قصيدة في مديح النبي محمد(ص)، عرفتها منذ بعيد وقد طارت في الآفاق وتم تخميسها والنظم عليها عشرات المرات، وتقرأ في كل المحافل والتكيات، وهي من بحر البسيط ومطلعها:

أمِنْ تذكرِ جيرانٍ بذي سَلَمِ .... مَزَجْتَ دمعاً جرى مِن مُقلةٍ بِدَمِ

والبيت الرابع والستين بعد المائة والأخير ينتهي بطلب الغفران:

فاغفر لناشدها واغفر لقارئها .... سألتك الخير يا ذا الجودِ والكرمِ

وقفت مع الأهل أقرأ أبياتها واستحضر معانيها، ثم تساءلت مع نفسي: كم من الشعراء مروا على البرية خلال قرون وقرون، ولكن عدة منهم من طار اسمه في الآفاق، بسبب بيت أو قطعة أو قصيدة، والبوصيري من هؤلاء الذي تُنشد قصيدته في محافل مصر وخارجها، ورغم أنه نظم الشعر والقصائد وكانت عالما ومتصوفاً، بيد أن بردته خلُدت ومعها خلد ناظمها، وما من عارف ومتصوف ينزل بالاسكندرية ويزور مسجده إلا وينشد البردة أو تخميساتها أو نظيراتها وبصوت عال.

وما أعادني بالذاكرة الى الاسكندرية ومقبرتها ومساجدها وساحلها مستعيدا البوصيري وبردته، ومسجده بقبابه الخمس ومنارته العالية، إلا كتيب "شريعة الشعر" للفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي  الصادر حديثا (2014م) عن بيت العلم للنابهين في بيروت، فالكتيب الذي يضم 125 مسألة فقهية تتناول الشعر ومشروعيته من حيث الحلية والحرمة والكراهية والاستحباب، مع 43 تعليقة للفقيه آية الله الشيخ حسن رضا الغديري.

 

غفلة النزول

كما لا يرتفع الطائر الا بجناحين، فان الكلام يحلو بحسن النثر وجودة النظم، وبهما يرتفع طائر الأدب ويحلق في سماء الثقافة والبلاغة، ولكل صنعته، بيد أن اللغط دار حول الشعر ونظمه، بعدما نزل قوله تعالى: (والشعراء يتّبعهم الغاوون) الشعراء: 224، وهنا يشير الفقيه الغديري في "مقدمة المعلق" الى الأشعار المنسوبة الى أئمة أهل البيت(ع) وبخاصة الإمام علي(ع) والمتضمنة للمفاهيم الراقية والحكم والنصائح والوصايا والارشادات والمعارف، مضيفا: (والذين يستدلون على عدم جواز إنشاء الشعر في الإسلام بالآيات الكريمة مثل: "والشعراء يتّبعهم الغاوون" فهم على غفلة من شأن نزولها زماناً ومكاناً، موضوعاً وحكماً، فكان من الضروري أن يكون الشاعر على معرفة بالصواب والخطأ من إنشاء الشعر ونظمه)، نعم إنما قام الإسلام كما يضيف الشيخ الغديري: (بتهذيب الشعر وإعادة الشعراء الى فطرتهم الأصيلة، فركّز على المعالم الإنسانية ومعارفها، حَكمها وفضائلها، مفاخرها ومكارمها)، من هنا: (قام النبي(ص) بتشجيع الشعراء والأدباء وأمرهم باتخاذ الأساليب السليمة والصحيحة والتي تضمن رقي الإنسان وفوزه ونجاحه وفلاحه وصلاحه).

فالآيات القرآنية التي ورد فيها ذكر الشعر هي ست آيات، ومثلها من الأحاديث، وربما أردف المانعون للشعر الأحاديث مع الآيات لمؤازرة ما ذهبوا اليه، من قبيل قول الرسول(ص): (لِأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خير من أن يمتلئ شعراً)، فهذا الحديث وأمثاله كما يؤكد الفقيه الكرباسي في التمهيد: (لم ترد باجماع المفسرين والفقهاء في ذم الشعر مطلقاً بل قُيدت بالموارد المحرمة)، فالشعر من حيث الحرمة والحلية كالنثر، فهو كما يضيف الفقيه الكرباسي: (إنَّ كل قول الباطل والزور والفحشاء محرّم سواء كان من خلال الشعر أو من خلال النثر).

فالآيات والأحاديث لا تقطع بالحرمة، وإنما تحظر بعض الموارد، والمعيار كما حدده الرسول الكريم: (إنما الشعر كلام مؤلَّف، فما وافق الحق منه هو حَسَن، وما لم يوافق الحق فلا خير فيه) واشتهر عنه (ص) قوله: (ان من الشعر حكمة)، وسيرة النبي محمد(ص) وقادة المسلمين وأئمتهم تنحو باتجاه دعم الشعر والشعراء، بل وروي ان النبي بنى لحسّان بن ثابت في المسجد منبراً ينشد عليه الشعر، وفي الحديث الشريف قال الإمام جعفر بن محمد الصادق(ع): (مَن قال فينا بيت شعر بنى الله تعالى له بيتاً في الجنة)، وهذا ما حدا بالشعراء والأدباء الى إنشاء الشعر ونظمه.

ولعل من موارد نفي الشاعرية عن نبي الإسلام رغم قدرته عليها كما يؤكد الفقيه الكرباسي هو: (لإبعاد كون القرآن من الشعر الذي كان المشركون يتهمون القرآن بأنه شعر من جهة أن المتنبئين في الجاهلية كانوا شعراء ومن خلال الشعر كانوا يبثّون تنبؤاتهم، حيث انهم الوحيدون الذين كانوا أصحاب الرأي والمعرفة وكان الناس يتبعونهم)، وهنا يعود الفقيه الكرباسي في المسألة الثالثة والثلاثين ليؤكد: (إذا ما ترك الرسول(ص) إنشاء الشعر بشكل عام فإنه لا يدل على الحُرمة بعدما نجده يستقبل الشعراء وينشدون أمامه ويطلب منهم إنشاده، وما عزفه عن ذلك إلا لأجل أن لا يُتهم بأن القرآن شعر).

 ولما كان الفقيه الكرباسي قد تفرغ لتأليف دائرة المعارف الحسينية في 900 مجلد، وقد اختص أحد أبوابها في الشعر المنظوم في الإمام الحسين(ع) ونهضته المباركة، فإنه يضيف في هذا المقام وهو يشير الى دعم النبي(ع) وأئمة أهل البيت(ع) للشعر والشعراء: (وأما في قضية الإمام الحسين(ع) فقد حثوا الشعراء على إنشاء الشعر وإنشاده، وكانت حصيلة هذا الحث أكثر من مليون بيت من الشعر قيل في الإمام الحسين(ع) إلى هذا التاريخ، وذلك اعتماداً على ما حصلنا عليه من الشعر باللغات واللهجات المختلفة)، وبالتأكيد أن الرقم تزايد بشكل كبير لاسيما وأن كلام المؤلف يعود الى عام 2009م، وقد شهد النظم الحسيني طفرة واسعة في العقود الثلاثة الماضية.

 

مشروعية التكسب

من المفيد ذكره أن الشعر رغم كونه ملكة وإبداع فطري، لكنه يدخل ضمن الصناعات الكلامية، والشعراء على أنواع، منهم من يتخذ النظم صنعة يتكسب منه فيمتهنه، والبعض الآخر يعتبره جزءاً من رسالته في الحياة على طريق خدمة الإنسانية وأكثر العلماء والفقهاء الناظمين للشعر من هؤلاء، وبعضهم الآخر يتلقى الهدايا في المناسبات دون أن يتخذ من الشعر مهنة أو صنعة.

وربما يذهب الظن بالبعض بأن التكسب بالشعر فيه شبهة، لكن عطايا النبي وقادة المسلمين للشعراء تنفي مثل هذه الشبهة، وبناءً على هذه الشواهد وغيرها فانه: (يجوز التكسب بالشعر إذا كان في  وجهة حلال، فلو أن هناك شاعراً يؤرخ مواليد الناس ووفياتهم أو أحداثهم وذكرباتهم ويحصل على المال جاز ذلك ولا حُرمة فيه أبداً) بل: (يجوز أخذ المال وانشاء الشعر في موضوع يطلبه السائل منه إن كان لغرض عقلائي كتأريخ مؤسسة أو ولادة طفل وما شابه ذلك)، وأما جائزة السلطان فإنَّ: (الجوائز التي يمنحها السلطان لمن نظمَ في أمر ما إذا لم يكن الشعر مقترناً بما هو محرّم ولم يقترن المال بما هو محرم فلا إشكال فيه)، ويعلق الفقيه الغديري على المسألة بالقول: (شرط أن لا يُستفاد منه في المحرّم كتأييد الحاكم الجائر ونحوه).

وربما تأتي شبهة حرمة التكسب بالشعر من كونه مجلبة للفقر كما هو المتداول، ولكن الفقيه الكرباسي يرد هذه الشبهة ويرى ان: (ما شاع بين أوساط بعض الشعراء أن نظم الشعر يوجب الفقر لا صحة ولا واقع له وبالأخص إذا كان الشعر يحتوي على موعظة أو حكمة أو مدح أو رثاء للأئمة للمعصومين(ع) وهذه شائعة أريد منها إقصاء شعر العرفان والفلسفة أو التصوف وأمثالها)، وبالطبع هناك من الشعراء من لا يطلب الأجر وهم كثيرون، بلحاظ أن الشاعر مملوء احساساً ومشاعراً فلا يرتضي لنفسه أن يقايض قوافيه بحفنة من الدراهم، وهذا ما يغري أصحاب المحافل والمجالس باستقدام الشعراء وعدم مجازاتهم، عن عمد أو جهل، والأمر ينطبق على اصحاب الكلام المنثور من المحاضرين والمتكلمين الذين يستقدمون للحديث في الندوات الثقافية والمجالس المتنوعة دون مقابل، مع أن الشاعر والمتحدث حاله حال صاحب اية صنعة يعيش معظهم مما تفيض مشاعره أو تخطه أنامله ويلهج به لسانه، وقد سمعت صاحب احدى المؤسسات الثقافية في لندن شكواه بأنه يطرق أبواب المتحدثين ولكنهم يعتذرون عن احياء البرامج الثقافية والدينية، ولم يسأل نفسه لماذا يمتنع البعض عن ذلك؟ فعدد غير قليل من المتحدثين والمتكلمين والأدباء إنما بضاعتهم الكلام، منثوراً كان أو منظوماً، فليس من الإنصاف أن يحيي برنامجا مهما كان عنوانه دون مقابل حتى وإن لم يطلبه بلسانه، لأن معظمهم يتعفف عن الطلب ويأنف السؤال عن المقابل.

 

شبهات شعرية

يناقش الفقيه الكرباسي عبر مسائل شرعية مجموعة من المسائل المتعلقة بالشعر، بعضها تقع في باب الشبهات، مثل شبهة حرمة التكسب بالشعر التي ليست سوى شبهة تعشش في أدمغة البعض كما رأينا، ومن الشبهات تناسخ الصور الشعرية، بحيث يعمد بعض الشعراء الى استخدام صور شعرية لآخرين، يرى البعض أنها تقع في باب السرقة الشعرية، لكن الفقيه الكرباسي يفصل بين سرقة البيت أو الأبيات وبين استنساخ الصورة أو المعنى، والاستنساخ حالة متقدمة عن توارد الصور والخواطر، فربما يقف شاعران على أطلال فينظمان الشعر فتأتي بعض الصور متشابهة دون سابق قصد الأخذ من الآخر، ولكن الاستنساخ فيه أخذ واضح، ومع هذا فليست هناك شبهة سرقة، ولهذا يؤكد الفقيه الكرباسي ان: (السرقة الشعرية لا تجوز وسرقة الصور الفنية أو المعنى جائز، أما نسبة شعر الآخر الى نفسه فمحرّم، أما إذا لم ينسبه الى نفسه فجاز انشاده)، ومبدأ الحلية حاضر في المسألة: (لأن الفكر منهلٌ مباح يستلهم كلٌ من الآخر شخصاً كان أو شيئاً فلا يمكن حصره)، ويتحقق مفهوم السرقة: (إذا ادعى أن الفكرة التي أتى بها من وحي ضميره وهو قد أخذها عن غيره فهذا معيب وسرقة لا يحل له ذلك)، وقد لا يتلاعب المرء بقصائد غيره فينشدها حتى وإن لم ينسبها لنفسه لكن بطريقة توحي انها له، وفي المسألة فرضان: (إن كان الشعر مشهوراً لا ينطلي على الناس ذلك فلا يُعد سرقة، إما إذا لم يكن يعرف قائله فهذا نوع من أنواع السرقة المحرمة).

ويقع في طريق الحلية التضمين الشعري فهو ليس بسرقة: (إذ يجوز أن يُضمّن شعر غيره في قصيدته وهذا جائز)، ويشترط الفقيه الغديري في تعليقه: (رعاية عدم تغيير المعنى كلياً أو الصورة الموهمة إلى الضلال). ولعل من الشبهات المشهورة الزعم بأن: (الشعر أعذبه أكذبه)، وهي مقولة لا تستقيم مع المفاهيم الانسانية الراقية المعاني للشعر، ولهذا يذهب الفقيه الكرباسي الى ان: (الكذب في الشعر لا يجوز)، وعلى الشاعر أن لا يعوّد قوافيه على ركوب أمواج الكذب ولا يسيّرها في بحور الدجل، وعليه فإن: (استخدام الكذب والدجل في الشعر محرّم، والكذب في الشعر إذا خرج عن حدّ المبالغة التي هي جزء من البلاغة محرّم، حاله حال النثر والكلام العادي الذي يتفوه به الإنسان).

نعم: (هجاء الفاسق والكافر المتظاهرين بالفسق والكفر جائز فيما أظهراه)، ويزيد الغديري معلقاً: (وذلك من دون فرق بين أن يكون في محضرهم أو في مغيبهم، بالشعر كان أو بالنثر، بالصراحة أو الكناية)، على ان الهجاء كما يؤكد الكرباسي، يدخل في باب: (مقارعة الظالم التي هي واجبة على القادر الذي يأمن على نفسه وعرضه وماله المُضر بحاله مع فقده)، وبالتأكيد فإن: (هجاء المؤمن لا يجوز بأي شكل من الأشكال) بل ان: (ذم وهجاء الإنسان بشكل عام لا يجوز سواء كان فيه ما يُذم أو لم يكن، فإن لم تكن فيه صفات ذميمة فهذا كذب وافتراء، وإن كان فيه ما يُذم فهو غيبة إن لم يعرفها أحد وإن كان معروفاً بذلك، فإن سبَّب إيذاءً فلا يجوز).

ومن الشبهات شعر الغزل، فهو واحد من أغراض الشعر، تقع الحرمة فيه: (إذا غازل الشاعر بشعرٍ امرأةً تحرُم عليه مغازلتها أي لم تكن زوجته أو أمته، حرُم عليه إنشاد الشعر الغزلي لها) ويُستثنى من ذلك كما يعلق الفقيه الغديري: (ما كان عبر آلة التسجيل فالحرمة لا تقع على صاحب الصوت نعم يحرم أن يسمع من تحرم عليه والحكم حينئذ يتوجه الى السامع دون صاحب الغزل)، وقد يكون شعر الغزل محبوبا ومطلوباً في ذاته إذا شدّ من لحمة العلاقة الزوجية، من هنا يرى الفقيه الكرباسي أن: (مغازلة الزوجة بالشعر مهما كان نوعه لا اشكال فيه إن لم نقل باستحبابه إذا كان موجباً لمزيد العلاقة ومقدمة لممارسة الجنس معها، إذ هو بمصاف المُلاعبة الجسدية فهي ملاعبة كلامية ربما كانت اكثر هيجاناً من الأمور العملية)، ولأن الأصل في كل شيء الحلية إلا ما ورد الدليل على حرمته فإن المعلق يزيد قائلا: (وإن كان مقترناً ومنضما بالرقص أمامه أو معه، فإن جميع الأعمال المثيرة والمهيّجة يشملها حكم التلاعب المباح أو المستحب وتتأكد محبوبيته، ولا يخفى ان استخدام الآلات المعدة للغناء محرّم حيث يبقى حكمها على حاله لأن الحلال لا يحلّل الحرام).

في الواقع ان كتيب "شريعة الشعر" رغم تسليطه الضوء على ما يجوز وما لا يجوز من الشعر ونظمه، انما يدعو ويشجع على انشاء الشعر وانشاده بما فيه خير الأمة وسعادتها والترويح عن النفس والروح، ويقدم رؤية شرعية تأصيلية وتأطيرية هي بمثابة خارطة طريق لكل ناثر أديب وشاعر أريب.