المجتمع العراقي والعبودية المُختارة !!
النسق الحضاري المتخلف يعتمد على لغة متخلفة، ربما بدت أنيقةَ المظهرِ لكنَّها لا تملك شجاعة قول الحقيقة. إنها لغة مخاتلة أو منافقة سواءٌ كانت لغةً للخطاب الرسمي أم للحديث العام، وسنرى كيف أن التخلف الحضاري يقترن بالتخلف الأخلاقي أيضاً حيث تتعفن البراءة وتذوي المروءة داخل الدولة وخارجها. لغة متخلفة لنسق متخلف، هو يحتضنها وهي تُكرسه. فهي لا تأتيه من الخارج بل هو الذي يُــنتجها بحكم ترابط الأشياء. إنه نسقٌ متخلفٌ لكنَّهُ نشيطٌ لا يعتوره الوهن بحكم عوامل الواقع التي تخدم آلياته، أي سلطة الواقع (= المجتمع المتخلف) الثقافية ونفوذها داخل العادات والمفاهيم السائدة. فهو يدافع عن نفسه عبر ظواهر متعددة سياسية واجتماعية، أحزاب وشخصيات ودول، لكنّه يظلّ متخلفاً لأنَّ جميع علاماته تشير إلى حالة نكوص حضارية وانكفاء اجتماعي. إن النتائج الثقافية والحقوقية للنسق المتخلف تُعيق إمكانية تحقيق العدالة. فالمجتمع في ظل النسق المُنكفئ ليس عاجزاً عن صناعة العدالة فقط، بل وأيضاً غير قادر على تقبّلها أو تكريسها عندما تتوفر! فالعدالة مثل كل الظواهر الثقافية لا توجد وتستمر إلا بوجود شرطها الاجتماعي، فالمظلوم الذي أدمن على حالة الإستلاب، لا يستطيع تقبّل العدالة بسهولة إذا توفرت. خذ الحالة العراقية: بعد نصف قرن من الانقلابات والديكتاتورية والحروب والكوابيس والقمع والمقابر الجماعية، توفرت الفرصة الديمقراطية، أي اختيار الشعب لحكّامه عبر صناديق الإقتراع، فماذا كانت نتيجة ثلاثة انتخابات برلمانية وثلاثة انتخابات مجالس محافظات؟ لقد قام الجمهور بانتخاب نفس القوائم والشخصيات التي ثَبُتَ فسادها بالأدلة المشهودة! فأبطال الشهادات المزورة والمشاريع الوهمية وانعدام الأمن والخدمات يُعاد انتخابهم المرة تلو الأخرى! بينما خسر الانتخابات مرشحون كثر معروفون بالكفاءة والنزاهة! وحين تَعرّضَ نوابٌ وقضاة وناشطون في قضايا العدالة وحقوق الإنسان، إلى القمع والملاحقة والحرمان من العمل أو الحرمان من المشاركة في الانتخابات كالنائب صباح الساعدي والقاضي منير حداد والقاضي رحيم العكيلي والنائبة مها الدوري ومحافظ البنك المركزي سنان الشبيبي .. الخ، بسبب تصديهم للفساد ورفضهم التواطؤ في ظل حكومتي المالكي (2006 – 2014)، مقابل هذا التنكيل لم نشهد احتجاجات شعبية أو تحرك مُنظّم لقوى المجتمع المدني لمساندة هذه الشخصيات الوطنية أو المطالبة برفع الظلم عنها! إنه مجتمع يصنع جلاديه بنفسه، إنها (العبودية المُختارة). إن استمرار الاستبداد لفترات طويلة يخلق أيضاً مناخَ أحباطٍ يجعل نظرة الناس لجمال الحقيقة مشوبةً بالتردد. والحقيقة هنا تتعلق بالموقف من قضية الإنسان، أي حقوقه وحريته. الإنسان كقيمة أخلاقية واعتبارية واحدة بغض النظر عن جنسه أو لونه أو عرقه أو معتقده. فالنسق الحضاري يتمظهر بشكل أوضح عبر نوعية الثقافة الحقوقية السائدة في هذه الدولة أو تلك، سلباً أو إيجاباً. النسق الحضاري المتخلف يُـنتج لغة متخلفة، بما تعنيه اللغة هنا من بنية ثقافية وأخلاقية وتراث ورموز. وبسبب ذلك لا نجد تطوراً روحياً وحضارياً ملحوظاً قد حدث في لغة الثقافة العربية المعاصرة، لا على الصعيد الفكري والأدبي ولا على صعيد الخطاب السياسي، لأن النسق الحضاري المتخلف يُقيم داخل نسيج اللغة أيضاً! فهو سائد كمعطى تاريخي وكأمر واقع حيث يظل يُعيد انتاج نفسه وظواهرة باستمرار ما دامت العبودية قد تلبست المجتمع وعوّقته حتى عن الاحساس بالظلم! عندما تتسلط علينا حكومة مزيفة تفتقر للشرعية والصدقية، تتسلط على ثقافتنا لغة مزيفة أيضاً. هكذا يتجلى النسق وهذا ما أعاق تطور المجتمع والثقافة معاً، لأن التطور لا يخص التقنيات الحديثة فقط، بل يشمل بالضروة منظومة القيم والمفاهيم السائدة، أي الثقافة الحقوقية. ولإن التطور يُهدّد مصالح المستفيدين من التخلف والاستبداد، أي الفئات المهيمنة على الدولة أو المجتمع أو كلاهما، فهم بدورهم يقومون بتشويه الثقافة الديمقراطية، بل يقلبون الحقائق على رأسها فيأتون بمفاهيم لا وجود لها في العالم المُتقدم مثل (لا علاقة للسياسة بالأخلاق) و(السياسة صفقة) و (السياسي الذكي هو من يوظف الأحداث لمصالحته الشخصية) فهذا ما يبرر لهم انعدام الحياء، ويسهل التلاعب بمصالح المجتمع والمقامرة بمستقبله! أليس هذا ما يجري بالعراق واقعياً؟! إن نسق التخلف يهيء المناخ لشيوع الاستبداد وظهور الديكتاتورية محوّلاً الشرطي من رجل عدالة إلى رجل عقوبة وأداة تخويف! فيأتي المثقف الجاهز ليبرر هذا الإنقلاب في القيم ليحافظ على وظيفته وارباحه الشخصية متناسياً قصائده التي كتبها البارحة للديكتاتور منحنياً لتقبيل يد (السيد) الجديد دائراً قفاه للجمهور، هكذا تتكاثر الشخصيات المستفيدة من اضطراب القيم والمفاهيم في ظل النسق المتخلف. وهذا يذكرنا بقول أوسكار وايلد (هناك أناس يعرفون سعرَ كلّ شيئ لكنهم لا يعرفون قيمة أيّ شيئ)! إن الأسلوب يترك أثره على نتائج العمل طبعاً. فالتآمر على الآخرين مثلاً لا يمكن أن يكون هدفه نبيلاً حتى لو أعتقد الطرف المعني بأنه يفعل ذلك دفاعاً عن النفس، أي حتى لو اضطر إليه اضطراراً. ليس لأن الدفاع عن النفس غير مشروع، بل لآن التآمر يدل على سقوط الطرفين المتصارعين تحت وطأة حالة غير سوية، أي أن كلّاً منهما هو ضحية وجلاد في الوقت نفسه. أنهما خاضعان لنسق من القيم والمفاهيم المضطربة، فيصبح سلوكهما من مظاهر هذا الاضطراب. وهنا يكمن الفرق النوعي بين نسق يُنتج ظواهر تتميز بالخداع والتآمر وآخر يُنتج قيماً إنسانية لا تضطر المرء للتفريط بكبريائه أو قناعته كي يحصل على فرصة عمل أو مكرمة أو ما شابه ذلك. وهكذا سنحتاج لكي نتطوّر إلى وقت طويل من التراكمات لدفع ضريبة التخلف. ومن زاوية أخرى، نجد أن انحراف السلوك لا يحدث دفعة واحدة، بل هو يحدث أولاً كخطأ تشكيلي داخل الأفكار وفي عمق المشاعر، فيتجسد في التصرفات اللاحقة على هيئة سلوك منحرف. ومعنى الخطأ التشكيلي هنا هو خلل في نسب الضوء والظل في لوحة القيم والمفاهيم التي تتحكم بمواقفنا ورؤيتنا لمعنى الحياة وقيمة الأشياء. إذا تذكرنا (فيلق الثقافة والإعلام أيام صدام حسين) وجماعة (الولاية الثالثة) للديكتاتور الفاشل نوري المالكي حيث كانوا عبر الفضائيات يتباهون بالخسة وانعدام الحياء، نستطيع أن نفهم ما معنى البراءة المتعفنة والمروءة التي تذوي وتتوحل. وهنا لا بدَّ أن نلاحظ: إن حامل ثقافة الانحراف هو أول ضحاياها، وأول ما يخسره هو كبرياؤه وكرامته، بعد ذلك يبدأ بترحيل مغبة انحرافه على الآخرين. وقد لا يبدو الخاضع والمستفيد من سلطة التخلف والمهانة بائساً، بل قد يبدو زاهياً وممتلئاً غبطة وشعوراً بالانتصار لأنه اختطف الفرصة من آخرين يتربصون بالفرص مثله! يحدث ذلك حين يكون المرء دنيئاً ودونياً لا تهمه سوى مصالحه الشخصية فيصبح جزءاً من ديكور حقبة الانحطاط. ومن هنا، أي من ادراك هذه الحقائق المؤلمة، تبدأ مقاومة النسق المتخلف، أي من خلال رفض سلطته وآثارها المتعددة، ثقافياً وأخلاقياً، حيث تتشكل الجبهة الأخرى في هذه الدراما المُحتدمة منذ آلاف السنين! وهنا تظهر الحاجة إلى المعرفة الجادة، إلى الفن والأدب الحقيقيين، ليس لأن المعرفة والفنون تجعل الحياة أقل صعوبة فحسب، بل وأيضاً لأنها تفتح أبواب النور، نور الشمس، ونور العدالة والحرية الذي لا بدّ أن يعمَّ أرض العراق ..