إلغاء {الثالث} !

لست من المغرمين بالحديث السياسي لكنني من المؤمنين بأن ما يجري في العراق حاليا يقودك دائما باتجاه السياسة، وأن من بين مضار الأخيرة التي لا تحصى يمكن أن تخرج فائدة غير متوقعة قد تصل لدرجة هدم تقليد اجتماعي موروث أو طقس متعارف عليه منذ مئات السنين.  
يخطر هذا في ذهني اليوم وأنا أشهد نقاشا في مأتم بعد أن قرر ذوو المتوفى إلغاء ما يعرف بـ"الثالث"، أي اليوم الثالث للمأتم، والاكتفاء بيومين فقط. وكان المبرر منطقيا جدا ويتعلق بالتدهور الأمني واحتمال استهداف "الجادر" بحزام ناسف أو مفخخة، فضلا عن قطع الطرقات في بعض مناطق بغداد وصعوبة التنقل. أحدهم علّق قائلا: انها أمانة وعلى أصحاب المأتم تقدير المخاطر المحدقة بالمعزين وعدم إعطائهم هدية للإرهابيين بتوفير أجواء مثالية لنشاطهم الإجرامي. أنتم تعرفون أن بعض المآتم قد تزدحم بمئات الرجال خصوصا في وقت الذروة الذي يسبق صلاة المغرب، وهذا يعني حدوث مجزرة حقيقية إذا ما فعل الإرهابي فعلته.
ليست هذه المرة الأولى التي يدور النقاش حول هذا الأمر، فقبل أسبوعين تقريبا تكرر الجدل نفسه في مآتم آخر حضرته وكان السؤال ملحّا جدا: هل نقصر المأتم على يومين و"تنوخذ غيبتنه" أم نتوكل على الباري ونترك الأمور على سجيتها الموروثة ونقيم "الثالث" الذي سيكون مزدحما بما لا يقل عن ٥٠٠ شخص؟ بعضهم أصرّ على المأثور زاعما أن "العرب ستأكل وجوهنا وسيقال أننا ألغينا الثالث بسبب المصاريف" في حين قال آخرون: هي مغامرة ربما تؤدي لكارثة والناس أمانة في رقابنا. وفي الأخير، أطيح بالمأثور وألغي "الثالث"، ومن ثم، جرى الاتصال بجهة أمنية لتوفير الحماية لـ"الجادر" وتوزيع مفرزة تفتش المعزّين فردا فردا بغض النظر عن وضعياتهم الاجتماعية. وبالفعل سارعت تلك الجهة الأمنية إلى إرسال عشرة شبان مسلحين توزعوا على المداخل الثلاثة وكانوا "كبيحيين" كما وصفهم البعض لدرجة أن بعض شيوخ العشائر تذمروا منهم واعتبروا تفتيشهم لهم إهانة لكرامتهم.
في تلك المناسبة وهذه، حضر المتغير السياسي في صلب الحديث وتجرّأ كثيرون على مناقشة أعرافهم التي ورثوها ليعترفوا أنها مجرد تقاليد وضعية لا علاقة لها بالدين، وإن المأتم ليس سوى مناسبة لمواساة أهل الفقيد سواء تواصل لسبعة أيام كما كان يجري في السبعينيات أم لثلاثة أيام كما يجري الآن. بل أن بعضهم دعا بقوة لترك عادة نصب الخيمة في الشارع واتخاذ الجوامع مكانا للتعزية في ساعات محددة، من دون تقديم وجبات طعام و"جيب التمن ومد الميوزه". كان الجدل يتصاعد كلما جيء ذكرٌ لإلغاء "الثالث"، مترادفا مع أفكار مثل: لماذا نحن مصرون على "الجادر" أساسا بينما المتمدنون لا يركنون إليه إنما يستخدمون الجامع؟ وهنا قد يحتدم النقاش بين قائل وهو يفرك أصابعه: "صعبة، ربعنه ما متعلمين عله الجامع"، وبين آخر مسترخي الملامح يقول: "مو صعبة"، ومن الممكن أن نتعلم بمرور الوقت. بعضهم قد يتذرع بعدم ملاءمة الجامع لبعض التقاليد كـ"الثغيب"، أي بكاء الرجال، وتقديم الطعام، بينما رأى البعض الآخر أن ليس ثمة ما يمنع من البكاء في الجامع أو تقديم وجبة في ثالث أيام العزاء تكون بمثابة ثواب لروح الميت.
هذا النقاش أوحى لي بفكرة أن كثيرا من الجنوبيين مقتنعون مبدئيا في إلغاء بعض تقاليدهم، لكنهم يفتقرون لروح المبادرة ويحتاجون لمن يغامر بها أولا. هم يتمنون الخلاص من هذا العبء الإجتماعي الموروث من مرحلة "السلف"، لكنهم يرتعبون من التغيير ويظنون أن ذلك يعني هدما لبعض القيم التي يؤمنون بها. مع هذا، فأن ضغط الوضع السياسي والأمني أجبرهم على إلغاء "الثالث" المقدس. وهنا لاحظوا أن الدنيا لم تنقلب، وأن القيم ظلت كما هي، ما يعني أن كثيرا من موروثاتهمِ ليست سوى أوهام يمكن الخلاص منها بسهولة. والخلاصة، في الأخير، هي التالية؛ المتغيرات السياسية ليست شرا محضا، ففيها فوائد غير متوقعة بقرينة إلغاء "الثالث" فتأمل رعاك الله.