راح الكيض جانه الشته!

كالعادة، ليس لي سوى أن أكتب عن مقدم الشتاء مع أول زخة مطر أتلمس طعمها على رأسي. قلت هذا وأنا أسرع خطوي مغادرا شارعا بائسا في منطقة "الجمعيات" بعد منتصف الليل حيث تجمع أناس حول جنازة قريب ثم اتفقوا على موعد الذهاب بها للنجف.هرعت لصعود سيارتي وأنا أردد مع نفسي - والشته شال شليله من يمنه عبر، ومع هذه الصورة، تخيلت ما سيجري على النازحين في بعض مدن العراق هذا الشتاء حيث المطر سيفضحنا ويفضحهم.
لكن دعوني من هذا الهم وتعالوا معي إلى لحظتي العابرة، لحظة مهاجمة قطرات المطر لرأسي، فأنا تعودت منذ سنوات على هذا؛ ما إن أصادف الشتاء في الشارع مضمخا بعطر السماء حتى أكتب شيئا. وفي غضون ذلك، قد أتذكر قصيدة ما أو أغنية أو كناية تحاول تشمم انفعالاتنا المبللة، ملقية ضوءا مكثفا على ركن من أركان حياتنا الاجتماعية المتأثرة بالفصول. ذلك أن هذه الحياة عادة ما تبدل ملابسها تبعا لتناوب الشتاء والصيف، ومع هذا التبدل قد تتغير أمزجتنا وهمومنا، ربما نفرح أو نكتئب تبعا لتأثير الفصل علينا.
نعم، ابتسمت وأنا أصعد السيارة ثم تذكرت قصيدة رائعة لحسين قسام النجفي يتحدث فيها عن دوران الشتاء والصيف وأثر ذلك في حياة الفقراء والأغنياء، راسما صورا شديدة السخرية وتضجّ باللامفكر فيه حتى لكأن صاحبها ولج إلى بواطن المسكين فتلمس أفكاره حول الموضوع. انظروا له كيف يكتب المطلع بطريقة دورانية: راح الكيض جانه الشته.. جانه الكيض راح الشته، ثم لاحظوا كيف أنه يشرع في التنقل داخل نفس الفقير من حجرة لحجرة بخطى تتراقص على وقع قطرات المطر: الشته يروح ولا يرد.. ياذيه للابس جرد.. بيه الهوه وبيه البرد .. انعل صفيحة ميته. و"صفحة الميت" من مجاز لهجتنا الذي قد يدل على صحيفة الأعمال. ترانا نقول مثلا بما يقرب من الدعاء بالشر؛ اليوم اشعل صفحة موتاك، بمعنى أنني سأشكو أمرك للباري بحيث أفضح أعمالك الرديئة معي بما يحرق صحيفة أعمالك وأعمال أجدادك يوم الحساب. وبما أن سيرة الشتاء مع الفقير مؤذية فإن الشاعر، مستعيرا لسان المكرود، يدعو عليه بالويل والثبور ويهدد بفضحه أمام الخالق العادل، فهو - أي الشتاء - ليس له وفاء ولا ذمة: شوف الشته الما بيه وفه.. للفكر كون يكشفه .. تلكاه يدور عل الدفه.. والحاف ماكو بكبته، وهو أيضا؛ ثاري الشته بس علفكر.. واعله الغني ما ظن يمر.. لابسله اهدوم شكثر .. فاصوته جرمن جبته، أي أن جبته ألمانية الصنع وليس كجبة الفقير من سقط المتاع. 
ليس هذا حسب، فحسين قسام يدعو على الشتاء أن "يطكه عرج" لأن المياه فيه باردة كالثلج في وقت؛ وجه الفكر أسود يلج.. تشوفه معكمش كصته. وعكمشة الجبين كناية لا أروع عنها عن الزمهرير. لكن الأطرف من ذلك أن الفقير، في الشتاء، يُحرم من بعض الأكلات غالية الثمن ويضطر لأكلات أخرى زهيدة؛ والشته يكضيه بقهر.. محروم من أكل الجزر.. أكله فجل طول الدهر .. وتتناكر وياه حرمته! 
النتيجة هي هذه إذن؛ الشتاء سيفضح الفقراء ويعريهم أمام أنفسهم مثلما الصيف كان سترهم، هو أيضا سيدخل السرور على قلوب الأغنياء لرومانسية أجوائه وفخامة ملابسه التي سيستعرضونها أمامنا. بيد أن الأخطر من هذا وذاك أنه سيكون وبالا على النازحين هذه السنة، فهل من شاعر مكرود كالنجفي يكتب شيئا عن أصحابنا المساكين،  و"راح الكيض جانه الشته.. جانه الكيض راح الشته" !