الدولمه بين كرات النار وكرات الثلج

كلما طبخنا (دولمه) تنتشر الرائحة في الزقاق فتبدأ الحركة في المنطقة , عدت من رحلتي اليومية وقت الظهر ولم أكد أدخل حتى دُقّت بابنا , كانت جارتنا بثينة ذات الوجه (النوراني) المدوّر تطبق بأيديها على عبائتها من منطقة الرقبة , ما أن رأتني حتى رفعتها الى الحنك , داهمتني بسلام أزال الكآبة التي لازمتني منذ آخر نشرة أخبار بعبارتها (شلونك خويه) , عبارة سحرية تبرّد أكبر مفاعل نووي , كنت منزعجاً من كل شيء وللأنصاف فأن نشرة الأخبار لم تكن مصدر الأزعاج , فالأزعج منها الذعر الذي نشره نظرائنا القلقون يوم أمس على صفحات التواصل في حالة هيستيرية تجعل أشد الرجال يُمسخ قطّاً ثم فأراً وبالعكس يحصل ذلك مرات عدة في الساعة الواحدة , نشروا في كل مكان عبارة (بغداد أحسن من أربيل) , هلل لهم أهل بغداد و أغتاظ منهم أهل الشمال وبدأ النقاش ثم السجال وبعدها المعركة , كانت فرصة لهواة القمار والميسر للتحرش بحرس التقاليد المتوثبين كما الوشق فنشر الخليعون على الفور (بغداد أحسن من لاس فيغاس وأفضل من شواطيء العراة في فلوريدا) , صارت حينها معركة أستخدمت فيها كل الشتائم والمقذوفات التي لايمكنني ذكرها , ولم يصمتوا حتى سمع الأمريكان بذلك فتوقفوا عن قصف داعش , بل أنهم حاولوا الأنتقام برمي الأمدادات لهم بالخطأ , فأمريكا أيضاً لم تسلم من داء الشتم والمقارنة والفخر , أكثر من شخص أعرفه أطلق عليهم لقب (نغوله) ونحمد الله أنهم لم يسمعوا , وقبل (مهاويلنا) قال الملا عبّود الكرخي (بغداد مبنيّه بتمر) فأعتبرها الأنكليز شتيمة سببت للأول معاناة طول العمر , وغيرهم وكانوا خجلين يحاولون أرتداء ثوب الأم تيريزا , كتبوا (بغداد بخير) وسكتوا ! , وهي بخير فعلاً فلماذا تكتبونها, هل هي مناغاة للعصابات كي يأتون لقتلنا , أم كلمة سر متفق عليها لفتح الطريق أمامها , أراها تشبه كثيراً عبارة (أخواننا) حين يطلقها المسعورون في وقت يقتلون عشرين في مكان وثلاثين في مكان آخر من ربوعنا , إن كنتم أخواناً فمن قتل الآلاف المؤلفة , الجميع يعرف أن لكلمة (أخواننا) تكملة هي (مشعولي الصفحة) يهمسون بها مع التكبيرات التي هجّرت العصافير وأضاعت الثقة , (ذاك الصوب) و (هذا الصوب) كل يذبح الآخر دون رحمة , أغلب الحملات متشابهة , ذكرتني حملتهم بنكتة (هد ثويره وأجاني) تلك التي حصلت مع الأعرابي حين رأى في طريقه حيزبون مغناج غانية وكيف أتهمته بأنه (يحاول) أغتصابها , ترادف نكتة أخرى عن أمرأة (من أيّاهم) قابلت حامل الدجاجات و(السطلة) أغلبكم يعرفها , ليست سوى مفردات أستهلكت وفقدت قيمتها , كما حلمنا في بلد (طبيعي) ذلك الحلم الذي تبخر على يد فطاحل الكذب الأحمر المعتاش على الدم والمدام بالصلف الرجراج الزئبقي , ومًن لم يمت بالذبح مات بكذبةِ , داعش (كومبارس الزومبي) معهم كم المعضوضين المتغلغلين في عمق المجتمع أبتيلنا بهم بعضهم بثوب الذباح واضح نعرفه والبعض متخفي بثوب المتثيقف المنقوص المرتزق , مستشفيات الأرض لا تكفي لهم , أصغرهم يحتاج محمية صحّية مع رحلة نقاهة لاتقل عن مئة سنة , وهل تصير الوحوش ملائكة , أين أطباء النفس و علماء مجتمع , نحن الربع الخالي من العلاج بعد أصابة الأغلبية بالعقم الفكري , هل يمكن أن يهزم بلد تعداده ثلاثون مليوناً وأكثر على يد حشرات مؤذية , مالكم تجارونهم في فكرهم , لو أخذنا بتلك الأخبار التي تنشرونها سأقابلكم بتبني فكرة أخطر منها , وهي أن وباء أيبولا سيجهز على الكوكب يوم غد , هل تستسلمون يا من تملكون العقول التي تهزم كل التحديات أولها أخطرها , لاتكونوا مجرد بيادق فارغه تملئونها وفق مايشتهي الجاهل المتوحش , رسالة ليس لها محل عند المسوقين للرعب بين أهلنا لكني أصر على أرسالها , وبعدها دعوني أعود الى جارتي بثينة كدت أنسى وجودها وتركتها واقفة , عفواً سيدتي تفضلي , طلبت ماعون (دولمه) متذرعة بأبنتها غفّوره فقد خرج الأمر عن السيطرة بمجرد أن شمّت المذكورة الرائحة الصادرة من منزلنا , وأسترسلت بخجل (حلفت ماتاكُل الا منها) وأن (طبخكم للدولمه) فيه نكهة لاتوجد في كل مأكولات المنطقة , أصابني الأطراء مقتلاً كما كل العراقيين الـ (مشايفين) فأنا لا أعرف من الدولمة الا أكلها , صرت على حين غرّة من الموغلين في أسرارها وبعد أن تنحنحت أنتهزت الفرصة وجهزت نفسي لألقي خطاباً تاريخياً أشبع به بعض أمراضي المزمنة , أسمعي أم غفران , كنا نجلب (السلق) من بستان جدّي حسن (مو حنش) من (بزايز) اليوسفية وبعد أن أستولى عليه صالح الداوود صرنا نشتريه من علوة الرشيد , أما البصل فهو من (الحلة) نجلب منه (كَونيّه) أم قلم الأحمر مرة بالشهر , والبهارات من الشورجة قصتها لوحدها فلم ,أذهب أليها راجلاً وقبلها بيوم أتمرن , فأقرب موقف للسيارات يبعد عنها (ثلاثة كيلومتر) في ساحة الوثبة , حتى الملح نجلبه من منطقة على الطريق الدولي تخرجه نساء رشيقات ليس لديهن (كرش) , أما دبس الرمّان فنعصره من رمان (شهربان) مباشرةً , عندي صديق قديم .. , أما اللحم .. أما الخضرة , لا أعرف كم مضى من الوقت وأنا أتفلسف أمام تلك المسكينة التي تأففت عشراً , وراوحت عشرات وهي تغيّر مكان أرجلها , حين غادرت كانت مسرعة وكأنها سجينة أطلق سراحها , ربما أخذت (الدولمه) أو لم تأخذها , وهكذا يا أحبتي وبسبب مرض الفخر وهواجس الشعور بالنقص ورغم أني نطقت بالحقائق , تسرب الضجر الى محدّثتي فضاعت مصداقيتي مع جارتي , وأنا على يقين بأنها كرهت (الدولمة ) ورائحتها وأهلها , أنا أعرف وأنتم تعرفون لكننا للعقلانية لا نخضع و للآن لم نبدأ , لا تذهبوا بعيداً أحبتي , عن أكلة (الدولمة) أتحدث .