رفض الجزم الأمريكية – ليس مسألة كرامة بل عدم ثقة |
تتعرض "الكرامة" هذه الأيام إلى قصف إعلامي شديد في العراق، وهو ذات القصف الذي نجده يسبق أية أتفاقات مع أميركا ليمشط الأرض أمام فلولها وينظفها من الإعتراضات والأسئلة. وتتعرض جميع الشعوب التي صارت حكوماتها ذيولاً أمريكية أو إسرائيلية، ولا تقتصر تلك الحالات على "المساعدات" والإتفاقات العسكرية بل تشمل حتى الإتفاقيات التجارية الكبيرة أحياناً. ويتصدى للقيام بمهمة القصف عادة أشخاص وجهات معروفة، كما ينضم إليهم أحياناً آخرون يدفعهم القلق الحقيقي والخوف على بلادهم، والذي يفقدهم سلامة المنطق والقدرة على رؤية وقياس الأمور بشكل صحيح.
لذلك كله تجري معركة قصف إعلامي على "الكرامة" هذه الأيام في العراق، لكن الحقيقة هي أن تلك المعركة، معركة إلهاء عن المعركة الحقيقية، وتشويش على الذهن العراقي ليتخذ قراراً خاطئاً. فرفض جزم الأمريكان في حقيقته ليس مسألة كرامة، بل مسألة عدم ثقة وهناك فرق كبير بين الأثنين رغم ارتباطهما! إنها مسألة خوف على الوطن من جهة مشبوهة الأجندة فيه، جهة تشير كل التعاملات معها في الماضي إلى أنها تهدف إلى تدمير البلد أكثر مما تهدف إلى إصلاحه، جهة ترتبط بشكل وثيق لا فكاك منه بإسرائيل وتتبع أجندتها التي لا تخفيها الأخيرة، والقائلة بأن تدمير البلد وإبقائه محطماً، مصلحتها الأولى وهدفها الستراتيجي. وإسرائيل ما تزال منذ نشأت ترفع شعاراً علنياً بأهدافها بضم نصف العراق، وهاهي أميركا تسعى اليوم صراحة إلى تقسيمه لحساب إسرائيل وأجندتها التي لا نعرف تفاصيلها ومدى طموحها، رغم أننا نعلم أنه ليس قليل وأن لا إسرائيل ولا أميركا برهنت يوماً انها تؤمن بأن "القناعة كنز لا يفنى" .
السؤال الذي ينبغي طرحه على النفس أولاً هو: هل ترى أميركا في الشعب العراقي صديقاً أم فريسة؟ وليس الجواب صعباً إن أزحنا خداع النفس قليلاُ، فلقد تعامل الأمريكان مع البلد كفريسة منذ البداية والأدلة كثيرة جداً، من استعمال اليورانيوم المنضب الذي لا يعلم إلا الله مدى التدمير الذي أحدثه وسوف يحدثه للحياة في العراق مستقبلا، إلى تدمير المنشآت المدنية التي لا مبرر لتدميرها في الحروب المتتالية، إلى استغلال تلك الحروب لنهب حضارته، إلى وضع إعلام يستهدف تشويه الصورة عليه وزيادة الشق الطائفي فيه، إلى إرسال نيكروبونتي ورفاقه من جلاوزة إرهابيي أميركا في أميركا الجنوبية، والخبراء بإنشاء وحماية الإرهاب لتأسيسه فيه، إلى رفض "مساعدته" وفق اتفاقية صداقة إلا بشروط، إلى استمرار خنقه بالفصل السابع واستخدامه لإبتزازه مرة تلو الأخرى وحتى اليوم، إلى رفض تسليم اسلحته التي دفع ثمنها مقدماً، إلى إصرار الولايات المتحدة على إعادة الأرذال من بقايا صدام إلى السلطة والضغط الشديد من أجل ذلك، خاصة في مراحل الإنتخابات وتشكيل الحكومة، إلى الإصرار على تدمير الإقتصاد العراقي بالخصخصة المنفلتة وحرية السوق، إلى إطلاق سراح اللصوص المدانين بقوة السلاح وتهريبهم إلى أميركا، إلى فضائح بلاك ووتر...إلى كثرة قيادات الإرهاب التي تبين أنها تخرجت من "بوكا"، إلى التقارير الروسية والكندية وحتى التسريبات الأمريكية ذاتها التي تؤكد كلها ان صناعة داعش أمريكية تماماً....أحاول جاهداً، لكن من المستحيل أن لا أنسى بعض البراهين الكثيرة جداً، على أن أميركا عدو وليست صديقاً، أو في أقل الأحوال وفي أحسن النوايا وأكثرها سذاجة وتميعاً، فإنها مشبوهة وليست أبداً موضوع ثقة! وبالتأكيد ليست موضع ثقة لترك جزمها العسكرية على أرض أي بلد، خاصة إن كان في الأمر إسرائيل!
الناس تعرف ذلك الخطر وتشعر به. فعندما تهتف الملايين "لا..لا... أمريكا" فهي ليست مسألة كرامة، بل مسألة عدم ثقة... عندما يهتف جمهور يملأ الملعب: "أنعل أبو اسرائيل لابو أمريكا"، فهي مسألة كراهية، وليست مسألة كرامة.. عدم ثقة وكراهية مؤسستان على تجارب مرة وحقائق ثابتة ومحددة لم تنسى رغم جهود الإعلام العراقي الذي تديره أميركا. قد يسأل المرء ما الفرق؟ اليست الثقة مرتبطة بالكرامة؟ ليس تماماً.. فبالرغم أن كل تدخل عسكري يحتوي ضمناً بعض انتقاص الكرامة، لكن حين يستقدم عدو أو جهة مشبوهة للدفاع عن البلد فهناك جرح كبير للكرامة، لكن الأهم من ذلك بكثير أنه يعني أننا نعرض أنفسنا للخطر! خاصة إن كانت الجهة موضع الشك، ترتبط بذات الخطر الذي يهددنا وتدعي أنها جاءت لقتاله دفاعاً عنا. لأنه يعني أنهما سيشكلان كماشة، مواجهتها أصعب كثيراً من مواجهة الخطر وحده. وهنا علينا أما أن نرفض هذا التدخل فوراً حرصاً على سلامتنا، أو على الأقل أن نراجع شكوكنا لنرى إن كانت لا أساس لها، قبل أن نقبل بمساعدة هذا "الصديق"...
هل الشكوك بالإرتباط بين أميركا وداعش لا اساس لها؟ إنني شخصياً لا اعرف شخصا واحداً في العراق لم يقل أنه يعتقد بوجود هذا الإرتباط! احد الأصدقاء الذين يسكنون العراق أجاب عن سؤالي بأنه هو أيضاً لا يعرف شخصاً واحد يصدق الرواية الأمريكية لداعش، وأن الجميع يعتقد أن داعش صنع أميركي الهدف منه ابتزاز العراق! هل أن رأي معظم ، إن لم نقل ما يقارب كل، الشعب العراقي إذن لا أساس له أو لا قيمة له؟ لو راجعنا الأسس لوجدنا أن المنطق يقول بوضوح بأن داعش أمريكية إسرائيلية، وأنه لا سبيل إلى وجودها وقوتها وانتصاراتها ومعلوماتها وكسب المعارك دون قتال وإفلات الخونة الذين تخلوا عن مدنهم لحسابها، من العقاب في كل مرة، إلا أن يكون وراءها قوة عظمى... وليس في العالم اليوم سوى قوة عظمى واحدة قادرة على مثل هذا المشروع الجبار! هذا إضافة إلى ماضي الدعم العلني لذات المجموعات الإرهابية التي تتسمى بأسماء مختلفة في سوريا. ومهزلة دعم داعش في سوريا ومحاربتها في العراق، مهزلة اخرى يجب علينا أن نتقبلها ونلوك اكاذيبها من أجل هظم فكرة أن أميركا تساعدنا ضد داعش..
أميركا هي التي دربت جيشنا بأموال عراقية طائلة ولمدة عشر سنوات، وفي النهاية أنتجت جيشاً يهزم أمام داعش بلا قتال!! ألا نقف عند هذا ونشكك به؟ أميركا استلمت منا أموالاً هائلة وعزيزة كنا بحاجة ماسة إليها لبناء البلد المحطم، لنشتري منها السلاح، ثم رفضت أن تسلمنا حتى الأسلحة التي اشتريناها لمواجهة داعش، ألا نقف عند هذا ونشكك به؟ ألا نتساءل: هل هو تصرف صديق يريد أن يساعد أم هو موقف عدواني؟ لتعرفوا كيف تتصرف أميركا عندما تريد أن تساعد، لننظر إلى التاريخ القريب لحالة مماثلة، ولنأخذ موقفها من فضيحة أخرى في الأسلحة، أي ما سميت "إيران كونترا". ولمن لا يعرف هذه الفضيحة، فقد قامت الجهات الأمريكية الأمنية، وبدون موافقة أو علم الكونغرس، ببيع أسلحة إلى إيران في الحرب العراقية الإيرانية لكي تديم الحرب التي أشعلتها أطول مدة بين البلدين، رغم أنها كانت ممنوعة من ذلك في القانون الأمريكي، لأن إيران كانت مصنفة في قوائم الإرهاب! ثم عادت تلك الجهات فاستعملت أثمان تلك الأسلحة لكي تشتري أسلحة جديدة تسلح بها ثوار الكونترا الذين يحاربون الحكومة المنتخبة في نيكاراغوا، وهؤلاء كانوا أيضا ممنوعين وفق القوانين الأمريكية من شراء السلاح!! وهؤلاء الأصدقاء لم يدفعوا ثمن الأسلحة الأمريكية التي حصلوا عليها، لا مقدماً ولا مؤخراً! هكذا تتصرف أميركا في السلاح وتلوي القانون من أجل دعم أصدقائها الحقيقيين من إرهابيي الكونترا، أو عندما تريد تحقيق أغراضها في إطالة الحروب! هكذا تعامل أميركا من تعتبرهم أصدقاءها، فهل يشبه هذا في شيء تصرف الحكومة الأمريكية مع العراق وصفقة السلاح الذي اشتراه العراق ودفع ثمنه؟ إنها تتجاوز حتى قوانينها لتقف مع "أصدقائها" وتخاطر من أجلهم وتوصل لهم السلاح مجاناً، أما العراق فقد تجاوزت حتى قوانينها التجارية المقدسة، لمنع سلاحه الذي دفع ثمنه من الوصول إليه، وقامت بابتزازه بوضع الشروط تلو الشروط لإتمام جانبها من الصفقة! هل هذا تصرف "صديق"؟ بل هل هذا تصرف جهة حيادية؟ أم تصرف عدواني صريح؟ ألا يحق لنا بعد هذا كله أن نبصق بوجه من يقول كلمة "صداقة" مع أميركا، أو يدعو للثقة بها من جديد؟
عدا هذا، فإن من يصدق لحظة واحدة أن داعش خلقت من نفسها أو حتى أن الذيول الأمريكية في المنطقة هي التي خلقتها وتدعمها بمبادرة من الذيول ذاتها وليس بأوامر أمريكية، شخص يريد قصداً أن يخدع نفسه، فهذه الذيول العربية التي تدعم داعش اليوم مشلولة عن القرار حتى في شؤونها الداخلية، دع عنك أن تتجرأ على مشروع هائل بهذا الحجم، وتقدر على التخطيط له وإنجازه دون ضوء أخضر أمريكي، إن لم يكن أوامر أمريكية صريحة، ودون أن تخشى انقلاب الأمر عليها. إن الذي تجرأ مرة واحدة على معارضتها وقطع النفط لفترة قصيرة جداً، قد تم قتله، رغم أنه وضع ذلك النفط وثروته في خدمتها قبل ذلك سنيناً طويلة! فهل يجرؤ أبناؤه وأحفاده اليوم على أن ينشئوا إرهاباً في المنطقة دون أن يكون وراءه أوامر أمريكية؟
إذن فكل شيء في العلاقة مع أميركا ينبئ بعدم الثقة، بل بالثقة التامة بأنها عدو لا شك فيه وأنها ترى مصالحها ومصالح إسرائيل في تحطيم العراق وتفتيت شعبه أجزاء صغيرة متناثرة ومتعادية وضائعة وفقيرة في كل شيء، لإرضاء إسرائيل وليكون زمام النفط ثابتا في يدها. حتى السفارة التي هي رمز العلاقة بين أي دولتين، ليست سوى قلعة جبارة حصينة وغامضة، لا تنبئ إلا بعلاقة التآمر وعدم الثقة مع محيطها!
إن كان هذا واضحاً، فيجب علينا أن لا نخجل من عدم ثقتنا وأن نتصرف على اساسه، لا ان نتظاهر كالحمقى بأن ما بيننا وبين الذئب الذي كشر عن أنيابه مئات المرات، علاقة صداقة. الخجل والمداراة مع عدو جبار تعني الموت المؤلم والعذاب والفقر وتحطيم المستقبل، وها نحن اقتراب ذلك الموت في كل عام منذ أكثر من عقد من الزمان من هذه "الصداقة" المسمومة، ونداري بكلماتنا ونمرغها بالتوابل عندما نتحدث عن أميركا، فيصبح "الإبتزاز" "صداقة" و "النهب" "عقوداً" و"الجرائم" "أخطاءاً"...فضاعت على المواطن الرؤية طويلا، وأوهمه الإعلام القذر المعادي والساسة المأبونون والكتاب عديمي الضمير والكرامة، أن هذا الذئب أرنب صديق لا خوف منه، فوصل الحال في البلاد إلى ما وصل إليه، رغم أن العراق أنفق من ثروته الناضبة مبالغ هائلة. والحقيقة أنني لست بحاجة إلى دعوة الناس إلى "عدم الثقة" بأميركا، فالثقة معدومة أصلاً حتى قبل داعش، وتبرهنها الإحصاءات الأمريكية المتتالية ذاتها التي أجريت في العراق قبل سنين عديدة، وبرهنت أن نسبة ساحقة زادت على الثمانين بالمئة من العراقيين لا يثقون بأميركا، بل أن نسبة تقارب النصف كانت ترى قتل الأمريكيين شرعياً ومرغوباً به! إن تلك الإحصاءات كانت من أهم ما دفع الأمريكان إلى الخروج، ليس احتراماً لرأي الشعب العراقي لا سامح الله، وإنما خشية تفاقم الكراهية وعرقلة عمل عملائها المدنيين من الترويج لها، فقرروا تخليصهم من منظر الجنود الأمريكان الكريه وفكرة تواجدهم في العراق، لتسهيل الأمر لهم، حتى تستتب الأمور بشكل أفضل لهم.
والآن يسعى هذا العدو إلى إعادة بساطيله التي لدينا عنها ذكريات مريرة لا حصر لها، بعد أن اثار الرعب فينا بفرقه الإرهابية التي أسماها "داعش"، فعلينا أن نقف بوجه هذا المشروع ونعتمد على أنفسنا وعلى أصدقاءنا، وهم ذات الأصدقاء الذين تمنعهم أميركا من المشاركة في الحرب على فرقها الإرهابية، وتقصره على ذيولها الذين ساعدوها في إنشائه. علينا أن نمتلك الجرأة لنقف مع من نراه يقاتل داعش بالفعل حتى أن أغضب ذلك من صنعها وعملائه وأذياله. علينا أن نعي بوضوح ونزيل كل وهم أحمق، وندرك تماماً إن من أنشأ داعش، ليس قادم لصد "داعش" بل لتأمين طريقها واختراق عناصرها لقيادة البلاد وتثبيتها ورقة ابتزاز طويلة الأمد ضد هذا الشعب. علينا أن نتوقف عن مناقشة مسألة الكرامة في قضية إدخال البساطيل الأمريكية، ونؤكد أنها مسألة عدم ثقة، وأننا نخشى خطر القوات الأمريكية وتعاونها الواضح مع داعش ولهذا السبب وقبل أي شيء آخر، نرفض دخول القوات الأمريكية ونستهجن كل من يدعو إلى هذا الدخول. إنها عدم ثقة سليمة، تتعلق بتحليل مصالح وعلاقات أميركا الدولية والعراقية، وعلامات الاستفهام الكبيرة التي تركتها تجارب عقد من السنين مفتوحة. ويجب أن لا يختلف في هذا الأمر من يعتز منا بكرامته مع من يرغب أن يعاملها بتساهل "براغماتي"، فحتى البراغماتية تقف هنا مع العلمية والمنطق والكرامة والسيادة، كلها تقول هنا بلا مجاملة او تمنطق:"لا.. لا. أمريكا". أننا، وبعد كل هذه التجربة المريرة معك، لا نثق بك ولا بمن يدعو إليك!
|