رسمي الهيتي.. الكاتب نازحا

لا يختلف الكاتب والمبدع والفنان، في فصيلة دمه، وحقوقه المدنية، عن معلم المدرسة وبائع الخضروات وموظف البلدية، ولا تختلف نساء ذلك الوسط عن نساء وسط آخر في نوع الدورة الدموية، وفي التعبير عن فجيعتها بالعويل او الصمت المكلوم، وحين يكونون جميعا مهجرين من منازلهم وبلداتهم الى المجهول تحت طبول “المكبرين” وراياتهم السوداء فان اختصاصات الحياة تظهر في غرائز تفرّ من الانضباط، فالمعلم النازح يحنّ الى تلاميذه ونافذة الصف المفتوحة على فضاء مطمئن، وامرأة صاحب الدكان تنتظر عودته ساعات الغداء من طرْقٍ خاصٍ على الباب لا يفطن له غيرها.
اما الكاتب، المنشغل بالخواطر وطيور الكلمات الشاردة وبرصد الصبوات والاحزان، فان حصته من دراما النزوح فكرة واحدة: أن يكتشف السؤال الابداعي عما حصل ويحصل من خراب وكوارث وتشبث بالحياة، وصولا الى تخطيط ايحائي لمصير هذا الوطن، وذلك، في استعادة صوفية سبق لمظفر ان قال فيها: “ليس ضروريا ان نعيش في فندق الوطن، حتى نكتب عنه شعرا جميلا. الوطن هو تشكيل ذهني”.
وهكذا حمل الكاتب المبدع رسمي رحومي الهيتي كتبه واوراقه وانتباهاته وعائلته الوافرة الافراد، وغادر هيت قبل ان يجتاحها تترٌ تدربوا على كل انواع الذبح “الاسلامي” لكل من يعترض طريقهم، وهي بلدة صباه ونافذة الدانتيل التي يطل منها الى نصوصه الضاجة بالحياة والمعارك والاسئلة، مشيا اول الامر، ثم على ظهر حافلة حاسرة، مثل ذلك النقش المصري على الحجر الذي يعود الى اربعة آلاف سنة لعائلة سامية مهاجرة قسرا من جزيرة العرب الى وادي النيل، تتباطأ في السير لعل معجزة تعيدها الى موطنها، او كحال الشراكسة الذين هجروا بلادهم في شمال القفقاس قبل مائة وخمسين سنة تحت سنابك الانكشارية العثمانيين، وركبوا القوارب البدائية، وكثير من شبابهم قذفوا بانفسهم في مياه البحر الاسود حنينا الى قراهم الآمنة.
رسمي، كان يريد، ويتمنى، ان يسافر بحرية الى مجرات أخاذة، لكنه الآن ينزح امام الغزاة المتوحشين. ترك هيت التي استقبل فيها الكثير من زملائه من اصحاب الابداع، واستضافهم على مائدة منزله، وقدمهم، من جرداغ نهري رومانسي، الى جمهور المدينة المتعلمين: بعد يومين من نزوحه، هاتفته متسائلا: اين وصلتَ؟ وعبر الهاتف جاءتني ضحكته الساخرة. قال: اين وصل العراق؟ نحن ما بين الرمادي والنخيب. ما بين الموت والحياة. ومرة اخرى هاتفته بالسؤال: اين انت الآن؟. رد: واين انتم؟. لماذا..؟ وسكت. قال: كنا نتوقع. وسكت. قال: لا يصح ان يعاملنا اصدقاؤك هكذا. وسكت.
اوكتافيو باث الكاتب المكسيكي الحائز على جائزة نوبل نزح قسرا عن بلاده العام 1937 وفي محطة باريس كان رجلٌ يناديه “أوكتافيو.. اوكتافيو” وكان ذلك هو بابلو نيرودا. تحاضنا.. فخفت اتعاب الأديب النازح.
رسمي الهيتي، معذرة عن نفسي.


“إذا عطس العراق، قالوا له: تحِبْ صبر”.

كناية