أهل الكهف الجدد



تصور أسطورة الكهف عند أفلاطون مجموعة من السجناء المقيدين منذ نعومة أظفارهم والممنوعين من النظر إلى الوراء أو الفكاك من إسار الكهف الذي تتسلل إليه من كوته خيوط نور خارجي يفصلها عن الكوة ممر يختلف فيه الناس ذهابا وجيئة فلا يرى سجناء الكهف إلا ظلال العابرين إلى أن تحرر أحدهم وأدرك بعد الشقة بين باطن الكهف وظاهره وعاد لإيقاظ الآخرين من وهمهم وإرشادهم إلى الحقيقة الأقوم فكذبوه وتربصوا به الدوائر.
تنطبق هذه الأسطورة بشكل رمزي على تشبتنا وتشبت أهل الحل والعقد في قطرنا الحبيب بالبقاء والاستقرار في كهف التبعية الثقافية المطلقة العمياء رفضا للمجهول وخوفا من أهواله رغم ما يحمله من آمال وبشائر ركونا إلى الثابت المعروف بكوارثه ومصائبه وويلاته, لذلك يفضل "المسؤولون" في بلادنا خصوصا وفي البلاد المتخلفة عموما النظر إلى الحياة بعيون الآخر المستعمر المتقدم الذي أدرك بعد طول التجريب والدربة والمران فاعلية الاستعمار الثقافي الذي يملي على أتباعه من الدول - التي إكتوت شعوبها ردحا من الزمن بظلمه وجوره واستبداده – التمسك بلغته بذريعة أنها لغة العلم والنهضة والحضارة والتشبع بثقافته والتنعم بحمايته ووصايته, فلماذا ننظر بعيون غيرنا؟ ,فإن كان ولا بد فلننظر بأفضل العيون الممكنة حتى نبصر نور الحقيقة ونستوعبها ونبلو عجائبها ونفك طلاسمها ونعيد صياغتها وتشكيلها كي نراها بأعيننا ونكشف ما طوي منها عنا .
طبعا وبديهة ليست هذه دعوة إلى الانغلاق ورفض ثقافة الآخر مطلقا, لأنه من المعلوم أن اللغات الأجنبية على اختلاف حمولاتها الثقافية تسهم في توسيع المدارك وإثراء التجارب ,وإنما هي دعوة إلى تقريب العلم والمعرفة من الجمهور وتعميمها وتحقيق الديمقراطية وضمان تكافؤ الفرص بين جميع الطبقات وإنقاذ السواد الأعظم من الناس من غثائيتهم ومن استمرارهم غبارا بشريا يعيش خارج سياق التاريخ لا إرادة له ولا فعل .
بيد أن مثل هذه الدعوات لن تستقبل بالأحضان المشرعة ,وبناء مثل هذه القناعات لن يأتي عفوا هينا ولن يكون بردا ولا سلاما على المنتفعين من تعميم الجهل والفقر والخوف ونومة أهل الكهف الطويلة ,والذين يمكرون الليل والنهار لتخذير المارد الذي يقبع خلف قضبان أجساد الجموع الغفيرة من الشعب التي حولها إغراقها في الجلد وتحمل الظلم والجوع والإقصاء إلى مجرد كم مهمل لا حضور له ولا تأثير , لأن غير ذلك من شأنه أن يحرم هذه الفئة المنتفعة من امتيازاتها ويكشف حقيقتها ويرد فريتها ويعجل بالتخلص منها ومن السموم والأورام التي تنكثها في شرايين الشعب اليتيم المستضعف .
إن الأمم التي تحذوها الإرادة الصادقة والعزيمة المتينة للنهضة والانعتاق من أدران التخلف والتبعية لا بد أن تأخذ بالأسباب الكفيلة ببلوغ المرام , ومنها التعرف على الأعداء الحقيقيين وعدم توليهم والحذر منهم ,وبالمقابل تحديد الأصدقاء والأحباب الخلص ومظاهرتهم والإستناد إليهم ,ثم وضع الطريقة السليمة والمنهاج المناسب والحكيم الذي تسلكه في غيابات هذا العالم المدلهم الذي تسوده المصلحة والقوة والظلم ,وذلك لانتشسال مستقبلنا من قبضة قوى الاستكبار العالمي التي تحترف الكلام المسجوع وتطبق مبدأ التقية فتقول عكس ما تعتقد , وقد فعلها كل المستكبرين من قبل ومن بعد ومنهم رمز الوحشية والهمجية والظلم زعيم المغول "جنكيزخان" الذي علا في الأرض وأفسد فيها وأهلك الحرث والنسل , وأسرف في الإنكار والإلحاد ودق أول إسفين في صرح الحضارة العربية –الاسلامية لتهديمها ومع ذلك كان يكرر هذه العبارات التي تفيض تمويها وكذبا ونفاقا فيقول : " ليس اعتمادي على فرساني وأفراسي ورماحي وأقواسي ,اعتمادي على قوة الجبار الذي لا يقهر ..."
والغريب أننا نصدق مثل هذه العبارات منذ القدم ونجعل غيرنا يصدق ذلك ويعيده علينا في كل مناسبة وقلبه مطمئن بتجاوبنا وتصديقنا له وقد عزم عزما أكيدا على مخالفتنا إلى ما يدعونا إليه وينهانا عنه لأن ديدنه احتكار المعرفة والمعلومة بهدف احتكار القوة والهيمنة وتكريس التبعية وتشجيع العدمية والعبث والهزيمة النفسية واستصغار الذات واستعظام الغير وغيرها من الأسلحة الجديدة الفتاكة التي أغنت المستعمر عن تحريك الجيوش فاكتفى بالمخابرات وبعض القواعد العسكرية .
والأغرب والأعجب مما سبق أننا – وبمحض إرادتنا – نعمل جاهدين مجهدين على ترسيخ قدم الاستعمار الجديد وذلك من خلال محاربة الدول لشعوبها وإكراهها على الاستغراب والتغرب إمعانا في التيه وتيسيرا لمهمة المستعمر بعد أن استعمل في استعماره القديم إلى جانب الغزو المسلح الفكر والأدب والثقافة وكلما يتعلق بالاستشراق الذي واجه في حينه قدرا غير يسير من الممانعة أما في أيامنا هذه وقبلها فإننا أضحينا نهرول إلى استجداء الفكر والثقافة الغربيين دون تنخيل أو تصفية وأدمننا التحنث في معابدها متوهمين أننا إلتقينا مع المستعمر على صعيد واحد ,وزاحمناه بالأكتاف والسواعد