رحل "تشافيز" الثوري الشجاع والسياسي المناضل في ظروف اكتنفها الغموض لإصابته بالسرطان, الوباء الذي أصبح متلازما لطبقة محددة من السياسيين في العالم, وقد يفتح رحيله الباب أمامنا واسعا لتأمل حقبة انتقالية خاضها هذا الرجل بجرأة وحنكة سياسية بالغة الخطورة والأهمية وكيف استطاع أن يبني شعب ودولة مع أوجه الشبه الكبير بين العراق وفنزويلا واشتراكهما بعوامل عديدة, وكيف استطاع مقاومة التحديات من اجل بلده, فكلا الدولتين تحتكمان على ثروات هائلة مع فقر مدقع وكانت هذه الثروات سببا للهيمنة على مقدراتهما و"تشافيز" هو أول رئيس يحكم من الأغلبية منذ نشأة فنزويلا الحديثة بعد هيمنة الأقلية على البلاد, ويقعان ضمن محيط دولي متجانس ديموغرافيا ومتقاطع معهما سياسيا وكان سببا لإحداث الفتن والاضطرابات فيهما.
تعتبر فنزويلا من اكبر منتجي النفط في العالم, ولغاية سبعينات القرن الماضي كانت تحتل المركز الأول عالميا في إنتاج النفط والثامنة عالميا بإنتاج الغاز, مع وجود نسبة فقر مدقع تبلغ (60%) من العدد الإجمالي للسكان, ارتفعت هذه النسبة الى (64%) بعد ان زادت دول (الأوبك) الأخرى من حصصها الإنتاجية النفطية وتراجع حصتها من الإنتاج.
تسيطر على الاقتصاد الفنزويلي مجموعة صغيرة من المهاجرين الأوربيين من ذوي البشرة البيضاء يطلق عليهم الفنزويليين تسمية (مانتونوز), سيطرت على مدى التاريخ على مجريات الأمور السياسية والاقتصادية معا, وكما هو حال معظم الأقليات المهيمنة في دول (أميركا اللاتينية) فان هذه الأقلية وثيقة الترابط فيما بينها وتتصرف بعنصرية بالغة التطرف مع بقية أفراد الشعب الفنزويلي من ذوي البشرة السمراء, ومع بروز زعامة قوية استطاعت ان تسخر حنق الشعب من وضعه الاقتصادي المتردي واستمالته لجانبها, انتخب الفنزوليين عام (1998) الرئيس (هوغو تشافيز) الضابط ألمضلي السابق والمعادي للهيمنة الأميركية, وسبق وان قاد انقلابا فاشلا عام (1993) كلفته المحاولة سنتين من السجن, حيث استطاع أن يحقق انتصاره الساحق في الانتخابات بعد ان أجج ثورة اجتماعية عارمة أثار فيها الوعي السياسي المشوب بالعاطفة للفنزوليين من ذوي البشرة السمراء (الباردوز) والذين كانوا يشكلون نسبة (80%) من عدد السكان, وحظي بتأييد كافة فئات الشعب من عمال وفلاحين ومثقفين الى حد كبير, ورغم ان (الباردوز) يشكلون أغلبية البلاد إلا إن (تشافيز) هو أول رئيس يحكم فنزويلا ينتمي إليهم, وكان كل الرؤساء السابقين وكذلك الكونغرس والقضاة في محاكم العدل العليا هم من (المانتونوز) الذين يشكلون (20%) فقط من السكان.
اتبع (تشافيز) خلال نبوغه داخليا وبشكل متعمد سياسة تصعيد النزاع الطبقي المقترن بالاستياء العرقي انتقاما من النخبة التي طالما استحقرت غالبية السكان واستعبدته, وأفصح عن برنامجه لفترته الرئاسية أمام ناخبيه وعن النظام الاقتصادي الذي سينتهجه (فالأرض التي تم الاستيلاء عليها من قبل النخب المتنفذة يجب استعادتها ولو بالقوة وإعادة توزيعها على أفراد الشعب) ووصف المستثمرين الأجانب ونخبة البترول ب(مستعبدي الشعب) ووعد بوضع حد لنظام الإقطاع ونفوذ رؤساء شركات النفط, وبعد توليه السلطة قام بتغيير اسم البلاد الى (جمهورية فنزويلا البوليفارية) تيمنا بالبطل الثوري (سيمون بوليفار) واصدر دستورا ديمقراطيا جديدا أدرج فيه حقوق الإنسان ومسؤولية الدولة في رعايته, واعتبر هذه الفقرات أهم بكثير من تحديد فوائد وإرباح الشركات, وأوفى (تشافيز) بوعوده لناخبيه, فقد وضع حدا لهيمنة (المانتونوز) على الكونغرس والمحكمة العليا واقر التعليم المجاني ومحو الأمية ومرتبات شهرية لربات البيوت, كما اقر أكثر من (50) قانونا مناهضا للرأسمالية, وفي عام (2001) قام بتأميم العديد من المصارف التي كانت ترفض إقراض الفلاحين وصغار رجال الأعمال وحذر باقي المصرفيين من انه ليس قادرا على تأميم المصارف وحسب بل وإيداع السجن كل من يخالف القوانين ويرفض الانصياع للقوانين وإقراض المواطنين, وقد استطاع ان يخفض نسبة الفقر من (64%) الى (23%) خلال فترة قياسية لا تتجاوز الثلاث سنوات من فترة حكمه الأولى, ولكنه خارجيا وجد نفسه مرغما في الانضواء في الشبكة العالمية المناهضة للولايات المتحدة للمحاولات الأميركية المستمرة لخلخلة الأوضاع السياسية والاقتصادية ومحاولة فرض هيمنتها المطلقة على فنزويلا, فكان ينظر إلى العولمة على إنها عبارة عن استعمار قديم استبدل الجيوش بالشركات العابرة, ومحاولة فرض الثقافة الغربية عنوة على امة حية لها حضارتها وتاريخها العريق, واستطاع أن يشكل تحالفا سياسيا واقتصاديا قويا مع الزعماء اللاتينيين من الذين نازعت دولهم النفوذ الأميركي واستطاعوا ضم شعوبهم لأنظمتهم السياسية في تحالف متماسك من الأنظمة المتجانسة لتحييد الدول التي ظلت قابعة تحت النفوذ الأميركي ضم كل من "كوبا والأرجنتين والإكوادور وبوليفيا ونيكاراغوا والى حد ما البرازيل" وأعاد "تشافيز" خلق ما يسمى (الجاسوس ضد الجاسوس) المتبعة أيام الحرب الباردة, ودعم المرشحين المناهضين للولايات المتحدة مقابل دعم الولايات المتحدة لمرشحيها, ودعم الدول المتحالفة معه ماديا بأضعاف ما كانت تمن عليهم به الولايات المتحدة المشروط بتدعيم الأجهزة الأمنية ومكافحة المخدرات, وسدد ديون الأرجنتين وانشأ صندوقا للإقراض لتجنيبهم الاقتراض من صندوق النقد الدولي, وانفتح على الدول العربية والإسلامية, فهو يرى التحالف معها بأنها واحدة من الطرق لخلق حضارة جديدة لإسقاط القيم والمفاهيم الامبريالية الغربية, فتضامن مع إيران وسوريا والفلسطينيين, وبنى علاقات قوية مع روسيا والصين وكان من أجرأ الزعماء في تقريع الرؤساء الاميركان وأشجعهم في اتخاذ القرارات الجريئة.
أدت سياسة (تشافيز) هذه إلى الاصطدام المباشر بالولايات المتحدة والنخب المتنفذة المدعومين منها منذ توليه الحكم, فتأزم الوضع السياسي والاقتصادي وقام رجال الأعمال من النخب (وكما هو معهود في مثل هذه الحالات) بتحويل أموالهم الى الخارج لتذهب إلى مصارف الولايات المتحدة لخلق أزمة مالية يتم بواسطتها إثارة الشعب ضده, ونشبت المعركة الحقيقية بين سلطة الشعب وسلطة النخب في قطاع صناعة النفط تحديدا, الذي كانت عائداته تمثل (80%) من عائدات الدولة الإجمالية, وعلى الرغم من إن (شركة النفط الفنزولية) هي شركة مملوكة للدولة قانونيا إلا إن نخبة رجال الأعمال كانت تسيطر عليها وتديرها وتؤلب عمال النفط ضد السلطة السياسية, فقام (تشافيز) بطرد رئيس الشركة وهو جنرال سابق في الجيش الفنزويلي وكان يحظى بدعم النخبة المهيمنة على الاقتصاد في البلاد, استمر تكالب شركة النفط وبتدبير من المخابرات الأميركية أطيح (بتشافيز) بانقلاب عسكري في عام (2002) وبدعم مفضوح من البيت الأبيض الأميركي, وكانت محاولة يائسة للأقلية المهيمنة على الاقتصاد للانتقام من حكومة منتخبة شرعيا وهددت مراكز قوتهم ونفوذهم, وكان الانقلاب قد حظي بدعم شركات النفط ونقابات عمال النفط وبعض الضباط الكبار من ذوي المصالح فقط, فعين الانقلابيين رئيسا مؤقتا للبلاد هو (كارمونا) من الأثرياء البيض وكان رئيسا لمجموعة شركات كبيرة, وبعد توليه السلطة قام بإقصاء ممثلي الكونغرس المنتخبين ديمقراطيا من مواقع السلطة, وسيطر رجال الأعمال على كل مقاليد الحكم, إلا إن الانقلاب وما أن أعلنت عنه وسائل الإعلام سرعان ما تهاوى ولم يستمر سوى "42" ساعة فقط أمام إرادة الشعب الذي خرج متحديا الانقلابيين وتمرد الجيش على قادته الانقلابيين وقبضوا عليهم وزجوا بهم في المعتقلات وأعادوا الرئيس الشرعي للحكم ثانية, فكان لا بد من التخلص منه بوسائل أكثر فاعلية, فلم تنفع نصائح "كاسترو" في توخي الحيطة والحذر في تحركاته وإمكانية الوصول إليه بوسائل أكثر فتكا مذكرا إياه ب(680) محاولة اغتيال تعرض لها بعد فشل إزاحته عسكريا, ولم يبالي "تشافيز" فكان وباء السرطان الذي أصيب به مع خمسة من ابرز زعماء أميركا اللاتينية ما يجمعهم هو الوقوف ضد الهيمنة الأميركية في بلدانهم, ما يشير إلى إن الإصابة لم تكن قضاء وقدر ويعزز من نظرية المؤامرة بشأن الملابسات التي أحاطت بوفاته, رحل "تشافيز" مودعا بدموع ملايين الفنزوليين الذين وعوا حجم المكتسبات التي تحققت مع زعيمهم الراحل وطبيعة النظام الذي أنشاه المستمد شرعيته من قوة الشعب وتلاحمه معه.
خالد الخفاجي/
رئيس الرابطة الوطنية للمحللين السياسيين