تجربة نفسية لنكتشف حقيقة قناعاتنا

أغمض عينيك وتخيل عزيزي القارئ أنك تسمع في الراديو أخباراً تؤكد أن تسونامياً رهيباً لم يعرف التاريخ مثله، القى بأمواجه على القارة الأمريكية، فأغرق الولايات المتحدة تماماً! ويقول الخبر أنه

بضعة أيام من الهلع والألم لصور الضحايا والمدن العظيمة المخربة، يدرك العالم أن أميركا تحولت إلى مناطق طينية تلعق جراحها، أو اختفت مع أهلها تحت الماء نهائياً، وفي كل الأحوال فإن أمريكا التي نعرفها لم تعد موجودة في العالم!... 

ما هو شعورنا تجاه بقية الأمور؟ وبشكل خاص لنسأل انفسنا: هل سنشعر بالرعب من أن داعش سوف تهاجمنا وتقضي علينا بعد زوال القوة "الصديقة" التي تردعها، أم أننا سنشعر لأول مرة أننا أمام جرذ صغير نتوقع أن تسحقه خلال بضعة أيام القوات العراقية والسورية بين فكيها وتقدم لنا في التلفزيون نماذج من رجال متخلفين ومنومين يتميزون بالبلاهة ولا يعرفون كيف "يسرحون بنعجة"... وإننا سوف نضحك من أنفسنا ونتعجب أننا صدقنا أن داعش قوة هائلة بذاتها وخفنا منها يوماً؟ 

 

أغمض عينيك وتقمص حالة زوال أميركا ، واسأل نفسك هذا السؤال، ثم عد لي لإكمال حديثنا... 

 

أراهن أن شعورك هو الثاني، وربما كنت تعرف ذلك جيداً حتى بدون إغماض عينك، وتعرف أنه بزوال أميركا من العالم فسوف نشعر جميعاً، حتى أؤلئك الذين ينادون بضرورة "صداقة أميركا"، بزوال همّ ثقيل يخنقنا، وأننا بإزاحته، سنرى بوضوح أن داعش لم تكن سوى خرافة كبيرة آمنا بها! سنرى أن وقوف أميركا وإسرائيل وراء داعش هو التفسير البسيط والوحيد الممكن لكل الأعاجيب والمتناقضات التي تحيط بالموضوع، وأن "أخطاء أميركا" و "توبتها" و "تصحيح موقفها" المتمثل بالدعم التام الصريح لذات المنظمات الإرهابية منذ سنين في سوريا، ثم عودتها لمحاربتها في العراق، كلها تخاريف لا تصلح حتى لخداع الأطفال! وأكثر منها إثارة للضحك أن الدولة التي تمتلك بقدر ما يمتلك بقية العالم كله من قوة عسكرية، تحتاج إلى ثلاثين عاماً لإزالة داعش، كما يقول قادتها العسكريين، وأنها تعجز أن تتنفذ لهم مذبحة أثناء انسحابهم من عملياتهم كتلك التي أبادت بها جيش صدام المنسحب من الكويت... وأن قدرة داعش لبيع النفط في أي مكان واستلام ثمنه واستعماله لشراء التموينات والأسلحة لا يمكن أن يتم في نظام تجاري ومالي تسيطر عليه الولايات المتحدة، إلا بموفقتها ومساعدتها، بل وتنظيمها للعملية كلها! وغيرها كثير من الحقائق "المبهمة التفسير" حالياً.

 

كذلك، إن تمكنا أن نتخيل العالم بلا أميركا، فسنرى بوضوح أكبر، وكأننا أعمى يفتح عينه لأول مرة، ويرى النور، أن القصة الرسمية لـ 11 سبتمبر قصة أطفال مفبركة، وأنه لا يمكن لمجموعة من المتخلفين المراقبين من قبل السي آي أي، أن تدير مثل هذه العملية الضخمة التي تضرب في أماكن عديدة في نفس الوقت، وأنه لا يكاد يوجد طيار يمكن أن يقوم بالمناورة الصعبة ثلاثية الأبعاد اللازمة لضرب البناية الأولى، أو يهبط بالطائرة التي ضربت البنتاغون بسرعتها القصوى، فيلمس بها الأرض بالضبط في الأمتار المناسبة ليخترق البناية عند مستوى الطابق الأرضي، دع عنك أن يكون ذلك الطيار متدرباً على قيادة طائرات صغيرة أخرى فقط، وأن حطام البنايات لا يمكن أن يهبط عمودياً وبسرعة السقوط الحر إلا في حالة الهدم المسيطر عليه هندسياً وأن من المستحيل أن يحدث ذلك للبناية الثالثة لمجرد اشتعال النار في بعض طوابقها ودون أن تضربها أية طائرة أو شيء آخر... 

 

سنستعيد كل ما قيل لنا أو قرأناه من أدلة على زيف القصة الرسمية للحادث، ونرى بوضوع أنها كانت أدلة أكثر من كافية لاكتشاف الخدعة، فلماذا تجاهلناها كلها وتجاهلنا التسجيلات الصوتية ومجموعة الإسرائيليين التي كانت تصور الموقع قبل الحادث وكانوا يرقصون لنجاح الضربة، وغيرها من الصدف التي فضحت الأمر بكل جلاء في حينها، لكننا تصرفنا وكأن كل تلك الدلائل وعلامات الإستفهام لا تعني شيئاً، حتى حين أقررنا بمصداقيتها، أو وافقنا على الأقل أنها تتطلب أجوبة؟ 

 

حالة من الإنتعاش والإنتباه والنشاط سوف تأخذ بنا حين نتخيل خلو العالم من الأمريكان، ستنشط ذاكرتنا مرة واحدة فنتذكر كل تلك المحاججات التي سمعناها وقرئناها ثم نسيناها والتي تكفي كل منها لتفنيد أية قصة من أمثال قصص 11 سبتمبر أو داعش، فلماذا نسيناها، وهل لسطوة أميركا علاقة بهذه الحالة؟ 

 

في الذكرى الأولى لـ 11 سبتمبر، نبه أحد الصحفيين في التلفزيون الهولندي قائلاً: "لو أن 11 سبتمبر حدثت في الصين، لكنا طالبنا حكومتها بالكثير من الإيضاحات قبل أن نصدق روايتها"، فلماذا تصدق الروايات  الأمريكية دون غيرها بلا تمحيص؟ هل هو الإعلام الأمريكي الذي يوهمنا ويجعلنا نصدق الأكاذيب؟ 

لاشك أن للإعلام الأمريكي الهائل تأثير كبير جداً في هذا الأمر، لكنه لا يكفي لتفسير تصديق قصص كقصتي 11 سبتمبر وداعش، خاصة وأن الإعلام المقابل – رغم ضعفه، قد نجح بالوصول إلينا وتنبيهنا بوضوح إلى الثغرات والتناقضات والأمور غير المعقولة التي في الروايتين الأمريكيتين للموضوعين، فما هو السبب إذن؟

 

إنه "الخوف"! الخوف الداخلي المستتر وراء أسماء أخرى، والذي يدفع بالعقل بعيداً عن المنطق ليبعده عن الإستنتاجات المخيفة والمثيرة للقلق وألم الحيرة. فلو أننا سمحنا لأنفسنا أن تصل إلى الإستنتاج أن أميركا تقف وراء عملية 11 سبتمبر أو أنها من يدير داعش، لجاءنا السؤال المرعب: "وما العمل إذن؟" إن كانت أكبر قوة في العالم تقف وراء الإرهاب، فتلك مصيبة لا نعرف كيف نحلها!

 

ولا يقتصر هذا التأثير على المواطن العادي، بل يشمل القيادات السياسية الأكثر وعياً أيضاً. فلطالما حدثنا المالكي عن "الصداقة الأمريكية" والتزامها "محاربة الإرهاب" ، وما يزال يلوك نفس الكلام، لكننا نذكر أنه لم يجرؤ على إلقاء القبض على الهاشمي بتهمة الإرهاب التي قال أنه يملك أدلتها قبل عدة سنوات، إلا في اللحظة التي غادر فيها الجيش الأمريكي الأراضي العراقية! لقد أجاب مبرراً تأخير ذلك الإجراء بأن الظروف لم تكن مهيئة وأن ذلك كان سيتسبب بمشاكل كبيرة جداً للعراق. و "الظروف" الوحيدة التي تغيرت وسمحت له بتلك الخطوة، كان انسحاب الجيش الأمريكي، وهو الحدث الذي اعتبره المالكي كما يبدو، إخلال لصالحه بتوازن القوى بينه وبين الإرهاب، سمح له بتلك الخطوة، أي أن الجيش الأمريكي بنظر المالكي كان يدعم الإرهاب وكان المالكي يخشى أن يتصرف ضد الإرهاب خشية رد الفعل الأمريكي الذي سينصر الإرهاب ويسبب الكثير من المشاكل للعراق وللمالكي، فانتظر خروج الجيش ليضرب. لكن المالكي كان يدرك أن خروج الجيش لا يعني خروج التأثير الأمريكي كله، فآثر أن تكون المواجهة محدودة وأن لا يغضب "الإرهاب" اكثر من اللازم، فسمح للهاشمي بالهرب من العراق قبل أن يقوم بضربته.

 

الجعفري يعلم جيداً أيضاً أن الأمريكان وراء الإرهاب، فقد جرت حادثة المجندين البريطانيين الإرهابيين في زمن حكمه، حين القي القبض عليهما متنكرين بملابس رجال الدين ومتلبسين بمحاولة تفجير حسينية في البصرة ، ثم قتلا شرطيين أثناء محاولتهما الهرب. ثم قامت القوات البريطانية بتحطيم السجن بالدبابات لإطلاق سراحهما، وأضطر الجعفري أن يبلعها ويسكت! وطبيعي أن المالكي لم ينس تلك الحادثة ايضاً. ولا نسي أي منهما كذلك قصة الإرهابي "فادي اللحدي" الذي تحدث عنه وزير الداخلية السابق صولاغ والذي قال بوضوح في أفلام مازالت موجودة على اليوتيوب، أنه كان مرتبطا بالأمريكان ويقوم بزرع عبوات ناسفة، وأنه حين حاول القبض عليه والتحقيق معه، اثار الأمريكان موضوع سجن الجادرية الذي كان اللحدي معتقلاً فيه وتم إطلاق سراحه! 

(إننا لا نشير هنا إلى أياد علاوي لأنه عميل رسمي مكشوف للأمريكان، وكذلك معظم قيادات السنة والكرد في تقديري، وهؤلاء جزء من الإرهاب، او يعلمون به جيداً وليس لديهم مشكلة معه، بل يقفون معه في ذات الخندق الأمريكي الإسرائيلي ولهم أدوارهم في أجندته، فلا تنطبق على هؤلاء مسألة الخوف وتأثيره على منطقهم واستنتاجاتهم). 

 

إذن فخداع النفس هنا ضرورة نفسية للحفاظ على القدرة على الإستمرار، ومنع الذات من الوصول إلى الإستنتاجات المؤلمة ، مثل كون أميركا مصدر الإرهاب وداعمته لذلك يتم خنق الحجج التي تدفع في هذا الإتجاه. وبالمقابل لو استنتجنا أن أميركا تقف معنا بمواجهة الإرهاب لوجدنا في ذلك عزاءاً وراحة كبيرين، لذا يتم تضخيم وتسليط الضوء على الحجج التي تدفع بهذا الإتجاه ويتم قبولها مهما كانت ضعيفة، فيجب فرض الإستنتاج المريح على النفس حتى لو رفضه المنطق! 

 

لكن الأمر ليس بهذه السهولة ولا تخلو من القلق. ولأجل إزالة هذا القلق أو التخفيف منه يلعب الإعلام دوراً كبيراً في التهدئة وفي دعم الحجج الضعيفة التي يستند إليها الإستنتاج المريح، فيقوم بجلب المتحدثين المأجورين أو المقتنعين بالخطأ بالفعل. وهناك تقنيات إعلامية وعبارات مخصصة لردع التفكير واكتشاف الخرافات، ولعل أهمها وأشهرها "رفض نظرية المؤامرة"، حيث يتهم فوراً أي شخص يشكك بأية رواية أمريكية لأي حادث، بأنه من "أصحاب نظرية المؤامرة"! وتكفي هذه التقنية في العادة لردع المترددين. 

 

كذلك هناك تقنية الإكثار من النقاشات التي تنطلق من نقطة تقبل الفرضية الخاطئة لتناقش نتائجها، فتوحي بصحتها بشكل غير مباشر. فمثلاً عندما يتجادل أثنان حول "فعالية الحرب الأمريكية على الإرهاب"، فأن هذا الجدال يفترض ضمناً أن أميركا تحارب الإرهاب. وبالتالي فأن هذا الجدال، خاصة إن كان عنيفاً مثل ما نرى في "الإتجاه المعاكس"، سيكون مفيداً في تثبيت الفرضية بأن أميركا تحارب الإرهاب، حتى لو انتصر فيه الجانب الذي يبدو أنه ضد أساليب أميركا في محاربته. وليس من السهل على المشاهد، حتى ذي الثقافة العالية، أن يفلت من مثل هذا الفخ، خاصة إن نجح مدير النقاش في أن يجعله حاداً ويستقطب تركيز المشاهد على صراع طرفي النقاش ويجعله يتفاعل معه ويتمنى فوز أحد الطرفين (الذي يراه محقاً، أو أقرب إلى الحقيقة) على الآخر، فهذا الحماس سوف يمنع ذلك المشاهد من مراجعة افتراض مهم هو أن طرفي الجدال على خطأ! وهنا قد يكون المتجادلان جزء من التمثيلية، وقد يكونا – كلاهما أو أحدهما، بريء متحمس للفكرة التي يدافع عنها، فيسقط في الفخ الدقيق ذاته.

 

في هذا الأمر تحضرني دائماً تلك اللحظة التي لا أنساها لجومسكي عندما سأله الصحفي في مقابلة، السؤال الملغوم بالجواب: "ما هي برأيك الطريقة المثلى لكي تحارب أميركا الإرهاب؟" فأجاب جومسكي بهدوء: "بالتوقف عن المشاركة فيه!" 

لقد كان مدير الحوار يأمل أن يدخل جومسكي في تفاصيل هذه الطريقة لمحاربة الإرهاب أو تلك، فيوحي للمستمع أن أميركا تريد بالفعل محاربة الإرهاب، لكن ربما لا تعرف الطريقة الصحيحة! ويمكن للمتابع العربي أو غيره أن يلاحظ الكم الهائل من الأحاديث عن "الأخطاء الأمريكية" في الإعلام، التي لو صدقناها، لافترضنا أن من يدير أميركا مجموعة من المتخلفين عقلياً، لا يكادون يقومون بخطوة صحيحة واحدة، مهما كانت واضحة. فهي “أخطأت” باحتلال العراق “وأخطأت” بحل الجيش “وأخطأت” بفتح الحدود “وأخطأت” بترك الإرهابيين يهربون من سجونها، مثلما “أخطأت” من قبل بعدم التخلص من صدام في عام 91.. الخ. كذلك شاعت فرضية عجيبة أخرى لعملاء أميركا ومن سقط بفخهم فخدع نفسه وردد كلامهم وهي أن أميركا تتحمل مسؤولية الضرر، ويجب أن نبقيها لنحملها مسؤولية إصلاحه!!

 

 

إن النجاح في خداع النفس بغير المعقول المريح، يختلف من شخص لآخر، وتجد معظم الناس تنجح نجاحاً محدوداً فيه، فيصل الصراع في داخلها بين المنطق والحاجة إلى القناعة المريحة إلى حالة هلامية من الشك المعلق الذي يمكن العيش معه، لكنه ليس مريح تماماً، لذلك يراجعه الشخص بين الحين والآخر كمن يفتح عينيه من تأثير مخدر قوي بسبب القلق، ثم يغمضها. 

 

الذي حدث في تجربتنا حين أزحنا أميركا من المعادلة ولو بالخيال، انزاح هذا الضغط النفسي أيضاً ولو بشكل جزئي، وهذا أتاح لمنطقنا أن يأخذ حريته ليستنتج بدون أية صعوبة بأن أميركا كانت دائماً مع الإرهاب، ويرى أن الأدلة على ذلك كافية جداً لذلك الإستنتاج، ويستغرب أنه لم يتوصل إليه أو كان في شك منه رغم وضوحه. وهنا قد يلقي الواحد منا باللوم على "حماقته" وقصور تفكيره، لكن المشكلة لم تكن في الصعوبة الفكرية المنطقية وإنما الصعوبة النفسية في قبوله، لذلك فالأجدى أن يلقى اللوم على قصور "شجاعته". 

 

كيف يمكن أن ننتبه إلى سقوطنا بهذا الفخ، لنسعى للخلاص منه؟ الحل بالوعي بالمشكلة أولاً، وهو ما آمل أن هذه المقالة قد قامت بواجبها في ذلك، وباستعمال المقارنات ثانياً، فهي سلاح رائع. أنظروا مثلاً مقارنة الصحفي الهولندي الذي اشرنا إلى قوله بأنه لو كان الأمر مع الصين لما قبلنا تلك الحجج! 

إن تعلم وتعود اللجوء إلى المقارنات يحتاج إلى تمرين وتعويد، ولاشك أن الأستاذ الأكبر في هذا الفن بدون منازع هو نعوم جومسكي ذاته، وقراءته هي الغذاء الثقافي الصحي المنمي لقابلية المقارنة، أكثر من أي كاتب آخر عرفته.