وزير التخطيط السابق علي بابان: نضع أيدينا على قلوبنا.!!

 

 

 


كتب وزير التخطيط السابق علي بابان


قال لي صاحبي وهو يحاورني.. عليك أن تنزع ثوب التشاؤم الذي ترتديه، فمنذ سنوات عديدة وأنت تتحدث عن العراق ولم أسمع منك تعليقا واحدا متفائلا والمطلوب منك اليوم أن تتوكل على الله أكثر...!!

قلت لصاحبي المتفائل.. علينا أن نرى المسائل بأحجامها الطبيعية وأن نحسن تقدير العواقب فليست الحكاية تفاؤلا أو تشاؤما بقدر ما هي السعي لقراءة الموقف بصورة سليمة... ولا اعتقد أن من حسن التوكل على الله أن يهمل المرء الأخطار التي تحدق بوطنه وأن يتغافل عنها..

منذ عقدين من الزمان وأنا أتمنى أن تكذب الأحداث توقعاتي... وأن تخيب ظني (المتشائم..) لكنها مع الأسف لم تفعل.. واليوم كم أتمنى أن تسير الأحداث بصورة تخالف ما يدور في ذهني من توقعات هي أقرب إلى الكوابيس..!!

البدايات التي نشاهدها اليوم باتت معروفة النهايات.. والمسارات التي يحث العراق الخطوات عليها واضحة الخواتيم.. ما لم يتداركنا المولى برحمته.. التصعيد في الخطاب لدى إطراف النزاع الداخلي.. والدخول الإقليمي الواسع على الخط العراقي.. وربط الحدث في بلادنا مع ما يدور في المنطقة وخاصة في سوريا.. ينبئ بما ستسير نحوه الأمور في وطننا إذا لم يتدارك العقلاء والمخلصين الأمر وهؤلاء مع الأسف باتوا في وضع لا يحسدون عليه.. أقل القليل هو الذي يصغي إليهم.. وأصواتهم خافتة وسط حشرجات الطائفية المتعالية وقعقعات السلاح والمواجهة التي يلوح بها البعض.. صيحات (وين يروح المطلوب إلنة) و(أخبطها و أشرب صافيها) صارت هي الإستراتيجيات المعتمدة لحل المشكلة القائمة.

من حقنا أن نضع أيدينا على قلوبنا.. ونحن نرى شعبنا يسير نحو (المحرقة).. وأمتنا تهرول نحو (الهاوية)... أنه  (الإنتحار) بعينه ليس إلا.. والأمر الذي يدفع إلى الحزن هو تلك (الغفلة) التي تطبع تفكير الساسة وقطاعات واسعة من الرأي العام الذي يبدون جاهلين أو متجاهلين للنتائج الكارثية التي ستنجم عن إندلاع الحريق وكأنهم لم يشاهدوا ما يحدث في سوريا اليوم، وما ابتليت به أمم كثيرة أصابتها لعنة الإنقسام والتشرذم.. أمم حل عليها غضب الله.. خسرت ابنائها وثرواتها وخسرت مستقبلها وصار قادتها وزعمائها (مجرد بيادق) في لعبة تدار لصالح دول خارجية.. وهؤلاء القادة الذين تمتلئ حساباتهم بالمال الحرام بقدر ما تمتلئ المقابر بالجثث و ترتفع ارصدتهم مع إرتفاع رصيد الدم و المعاناة.

صوت الجهالة في وطننا لا زال هو الأعلى.. والإستسلام لأحقاد التاريخ ومرارات الماضي هو الذي يهيمن على النفوس.. وكل طرف يستخرج من الكتب الصفراء نبواءته التي تقول أن ساعة الفرج قد أزفت ..و أن قيامة الخصم باتت قاب قوسين أو أدنى، الكل يتحدث عن (كسر الإرادات) ولا أحد يجهد نفسه من أجل (توافق الإرادات).. الكل يطمح للنصر وسحق الخصم ونظرة واحدة إلى أساسيات الصراع والقوى المنخرطة فيه وحسابات التاريخ والجغرافيا تجعلنا نستنتج بأن معركة كهذه ستطول.. وتطول.. وأن زادها ووقودها سيكون عشرات ومئات الآلاف و خسارة المستقبل بالكامل..نحن نقترب من (داحس و غبراء) العراقيين حيث يفنى القوم بعضهم البعض وحيث القتيل والضحية هو أخ شقيق وأبن عم.

غدا.. أو بعد الغد.. بعد سنة أو عشر سنوات من الصراع.. بعد أن يتسع بحر الدم ويصعد جبل الجماجم.. وتسعى بعض القوى التي تدير الصراع إلى غسل أيديها من الدماء العراقية..سيعقد مؤتمر للصلح وللتسوية وتوضع ترتيبات لحلول وتقسيم مناطق النفوذ.. وإذا كان الأمر هكذا فلماذا لا نوفر هذه الدماء.. وتلك الأموال.. ويجلس العراقيون منذ الآن ليحلوا مشكلتهم بأيديهم ويبعدوا التأثيرات الخارجية عن رسم ملامح مستقبلهم.

بغداد العزيزة التي لم تشف من جروحها بعد.. والتي أنشب الجهل و الفساد والاحتلال أظافره في وجهها ستكون (بؤرة صراع قادم) لا محالة.. هكذا يراد لها.. سيقتتل فيها التاريخ والجغرافية.. وتتنازع هوية الأمس مع هوية اليوم.. هناك ستكون (ذروة المأساة) بحق.
الدستور.. العملية السياسية.. رمزيتها واحترامها تأتي من قدرتها على تأسيس وضع مستقر وحالة راسخة يشعر فيها الجميع بالكرامة والعدالة والثقة بالمستقبل.. أما إذا لم يتحقق ذلك فلا رمزية ولا قدسية لها.. وهي بالقطع ليست نصوصا مقدسة لا يجوز المساس بها أو الإقتراب منها.. وهي أيضا ليست (فرصة) إقتنصها البعض بالأمس في ظل ظروف معينة لا يجوز التفريط بها.. أنها حالة تعاقدية بين أبناء الوطن الواحد تنشأ بأرادتهم و تلغى أو تعدل بأرادتهم كذلك.. الدستور.. والعملية السياسية.. ليست بالقطع أثمن من دماء العراقيين.. ولا أغلى من وحدة وطنهم وتماسك مجتمعهم.. ولا ينبغي أن تتحول (طوطما) يتعبد له الفاشلون..

في العراق (حقائق كبرى).. هي كملامح الوجه و لون البشرة.. هذه (الحقائق) اما أن تتعايش ..أو أن تصطرع.. أنها حقائق التاريخ و الحضارة والهوية و الثقافة منذ أن ظهرت كلمة العراق في (القواميس).. الحقيقة الشيعية والحقيقة السنية و الحقيقة العربية و الحقيقة الكردية و الحقيقة الوطنية العراقية ..كلها راسخة الجذور عميقة التأثير ..أنها ملامح الوجه التي يصعب تبديلها.. ولون الجلد الذي يستحيل تغييره.. هذه الحقائق قد تصبح في حالة (إنزواء) في ظل ظروف معينة و لكنها تبقى في حالة (كمون) لا تلبث أن تبرز وتعبر عن نفسها بصور وصيغ متجددة.. هذه الحقائق لا مفر لها من التعايش.. والتكامل.. والإتساق في الإطار الوطني العراقي.. وحذار من التوهم بأمكانية شطبها أو تحجيمها.. حذار من الضغط على الحقائق الكبرى... لأن مثل هذا السلوك ليس له سوى نتيجة واحدة ..الصراع المدمر أو الإضطراب الموجع.

ظاهرة خطيرة بتنا نواجهها اليوم... فالحرب الأهلية و التقسيم.. صار لها منظرون ودعاة يتحدثون عن دول وكيانات ستنبثق من بين ركام العراق المدمر و على انقاضه دول تحمل العدل و الرخاء لأهلها و تنهي هذا الشقاق والنفاق في أرض العراق.. ولا يدري هؤلاء أن هذه الدول التي يحلمون بها لن تكون سوى (محميات ) لدول الجوار وأن حاكمها لن يعدوا أن يكون (سركال) أو (باش كاتب) لتلك الدول في أحسن الفروض.
هذه الكيانات الهزيلة الموعودة لن تتجاوز حالة ( جمهورية أرض الصومال).. أو (دولة جنوب السودان) حيث الفقر والجرب والتخلف... نفط وخيرات هذه الجمهوريات الإفتراضية سيصبح مرهونا (للدول الراعية و الحامية).. وهذه الكيانات الممسوخة لن تكون سوى مرتع للجهلة والأميين... المشعوذين والمتعصبين.. أصحاب الثقافة المتخلفة من ذوو الوجوه الصفراء والعقول الخاوية الذين لا يملكون سوى معادلة أو معادلتين يفسرون كل حوادث الكون و تفاعلاته بها.. هؤلاء ممن حرموا نعمة الثقافة والتحضر واستداروا نحو الماضي ينهلون من احقاده ويمضغون سمومه صباح مساء.. شطبوا مفردة (المستقبل) من قواسهم وأسقطوا حساباته من عقولهم... وهم على هذه الضفة أو تلك.. لا فرق.. والأمر سيان.

الزمن استدار دورته.. والتاريخ يكرر نفسه.. نحن اليوم بأنتظار دولة (الخروف الأسود) و (دولة الخروف الأبيض) وأدعو العراقيين لقراءة تاريخ تلك الحقبة المظلمة ليستنتجوا الكثير من الدروس.. وليعلموا أية هوة سحيقة أنحدر إليها العراق آنذاك.. فهل نسلم مصيرنا لامراء الظلام.. سواء أكانوا من أتباع دولة الخروف الأبيض أم أتباع دولة الخروف الأسود..؟؟

* وزير التخطيط السابق
aligbaban@gmail.com