الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية في تشريع الكفارات

عند مقابلة قوله تعالى: (مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) مع بقية الآية نفسها في قوله تعالى: ( وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) المائدة: 32، نجد أن كلمة القتل تقابل الإحياء، والقاسم المشترك بين نصي متن الآية الكريمة هو "نفس الإنسان" المعادل لـ " الناس جميعا" في القتل والإحياء، وهذه المقابلة تقدم دليلاً قاطعاً أن النفس الإنسانية لها قيمة تعادل قيمة الناس جميعاً، والتعامل معها في السلب والإيجاب هو تعامل مع البشرية كلها، وعندما يقرر رب الخلق هذه المعادلة الخطيرة، فإنه تعالى يضع للإنسان خصوصية في هذا الكون تتمحور حول حياته ذاتها واحيائها في الخير لا في الشر، فسبحانه وتعالى يريد، في الدارين، حياة الإنسان لا موته ولا عذابه.

ولأن حياة الإنسان مسرح تتفاعل على خشبتها قيم الخير والشر، فإن الخطأ أمر وارد مهما بلغ الإنسان من الإيمان والتقوى مرتبة إلا المعصوم، ولأن الحياة الدنيا دار ممر الى دار مقر، فإن تعاليم الإسلام تنحو نحو الإستفادة منها وزرعها بالخير حتى يحصد الزارع ثمارها في جنة الخلد وملك لا يبلى، ولمن أخطأ مع نفسه جعل الإستغفار باباً للدخول الى رحمة الله، ولمن أخطأ مع الغير بنحو من الأنحاء جعل الاستغفار دليله الى جانب افراغ ذمته من الآخر حسب نوع الخطأ أو الجنحة، سعياً وراء تطهير نفسه من الذنب في الحياة الدنيا عبر الاستغفار القولي، أو الفعلي بدفع الفدية أو الكفارة بمفهوم الشرع الإسلامي.

الفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي، كما عودّنا في سلسلة الشريعة، يوقفنا في كتيب "شريعة الكفارات" الصادر في بيروت حديثا (2014م) عن بيت العلم للنابهين في 80 صفحة، على الكفارات التي ينبغي للإنسان أن يؤديها من أجل التكفير عن ذنوبه في الحياة الدنيا حتى يذهب الى قبره وربه سليم السريرة مستفرغاً للذمة من أية تبعة، وهي مسائل شرعية ومدنية معاً ينبغي للإنسان الإطلاع عليها ليس فقط من أجل معرفة الكفارات وأنواعها وأقيامها، وإنما الاطلاع على الحالات التي تستوجب الكفارة والفدية في سبيل تجنب الوقوع في مزالقها، فهناك عدد من الممارسات الخاطئة التي يستقلها المرء ويستصغرها، وهي بحاجة الى مسحها من سجلِّه وكتابه، وقد أفرد الفقيه الكرباسي 159 مسألة شرعية مع تمهيد يضع فيه النقاط على الحروف، إلى جانب مقدمة و27 تعليقة أوردها الفقيه آية الله الشيخ حسن رضا الغديري.

 

الكفارة عبادة

للكفارة وجهان يبدوان على تضاد مع بعضهما، وإذا أنعمنا النظر فيهما، نجد التداخل بينهما المؤدي الى فائدة الإنسان المذنب نفسه، والتعريف دال على ذلك، فالكفارة اسم للتكفير بمعنى الستر، ويضيف الفقيه الكرباسي: (فقولهم كفّر عن ذنوبه أي سترها بأمر ما، قد يكون بالتوبة أو بالصوم أو ما شابه ذلك)، وبتعبير المتشرعة: (مجازاة عمّا ارتكبه المكلَّف من قول أو فعل غير محبوب لدى الله جل وعلا)، وبشكل أخص: (هي مجازات وغفران عن ارتكاب ما لا ينبغي فعله أو تركه) فهي تشمل ترك ما حقه الفعل وفعل ما حقه الترك.

فالذنب من حيث هو ذنب متعلق برقبة المذنب، ولكن متعلقاته تتجاوز المذنب نفسه، فلها: (أربعة حقوق: حق الله، وحق النفس، وحق الناس، والحق العام، وأقلّ الذنوب ما تعلق بها حقّان: حق الإنسان نفسه، وحق الله)، ومثال الأول جريمة القتل ومثال الثاني ترك الصلاة، وقد يتعلق بالذنب ثلاثة حقوق ومثاله الزنى في الخفاء الذي فيه ظلم للنفس (حق النفس)، وتعد على حق الآخر (حق الناس)، وتعد على حرمات الله (حق الله) الذي لا تخفى عليه خافية، على أن حق الناس مقدم على حق الله، بل انه رهن تحقق الحق الأول، فلا يسقط حق الله حتى يُسقط المذنب حق الناس، فلو أدى الإنسان ما عليه من الحق تجاه الآخر فتح لنفسه باب التوبة والغفران، ولا تراتبية بين حق الناس والحق العام كما يؤكد الفقيه الكرباسي فأيهما نفذ انتهى منه.

ولا يخفى أن الكفارات درجات وهي تبع للذنب، فذنب كفارته الغفران وآخر حقه عتق رقبة وثالث حقه الصوم ورابع حق اطعام المساكين، وخامس الإكساء أو التصدق، وبشكل عام فإن الكفارات على ثلاث صور: مرتبة ومخيّرة والجمع، فالكفارة المرتبية هي: (الكفارة المعيّنة، فإن عجز عن القيام بها انتقل الى غيرها وهكذا) والكفارة المخيّرة: (هي الكفارة التي يُخيّر المكلّف بين عيّنات مختلفة)، وكفارة الجمع: (هي الكفارة التي يتعين على المكفِّر أن يقوم بها جمعيها)، ومدار الكفارات الثلاث هو تحرير رقبة وصيام ستين يوماً وإطعام ستين فقيراً، وقد تكون الكفّارة المعيّنة: (لا هي مخيّرة ولا مرتّبة ولا هي من الجمع بل يجب الاتيان بها حصراً).

وتقوم الكفارة على أربعة أركان: المكفِّر (الشخص الذي فعل أو ترك ما يوجب الكفارة)، ويشترط فيه: البلوغ والعقل والعقيدة والقصد والعلم. والمكفَّر عنه (الذنوب التي تستوجب مجازاة الإنسان عليها)، والتكفير (عملية التزام المكلَّف بالعمل على مقتضى الكفّارة) ويشترط فيه النية والقربة. والكفارة (المادة التي يكفّر بها المذنب) كتحرير رقبة أو الصوم أو الإطعام أو الأكساء أو الصدقة، وفي جميعها يقتضي النية والقربة، وبهذا تكون الكفارة هي العبادة بذاتها، فكما تحتاج الصلاة أو الصوم أو الحج الى نية وقربة، فإن الكفارة من لوازمها النية والقربة، ولا تتحقق بدونهما حتى وإن اعتق المكفّر الرقاب وصام وأطعم، فكما لا تقبل الصلاة من غير نية وقربة لا يسقط الحق في الكفارة من دونهما، وبتعبير المعلق الفقيه الغديري: (ففي كل واحدة من الكفّارات جهتان، جهة مادية وجهة معنوية ولكن الأساس في الجهتين هو توجه العبد الى طاعة الله وترك معصيته، والتجنّب عن كل ما فيه سخطه)، ومع تعدد فوائد الكفارة كما يضيف الشيخ الغديري، فهي: (تنتهي الى جذب العبد المذنب الى طاعة الله سبحانه وتعالى وسوقه الى ما يرضيه من الأعمال المقرّبة إليه جلّ شأنه).

 

أغراض متعددة

لا شك أن الكفارة تدخل في جزئيات سعادة الإنسان في الدارين، وإن بدا أن في الطريق عقوبة أو فدية أو غرامة، فهي تردع المذنب عن العودة الى مثل الذنب القديم وتخلق في نفسه قوة الردع الذاتي لاسيما وأن الكفارة بقدر الذنب، كلما كان كبيراً ارتفعت الفدية والغرامة، وهذا ما يجعله أكثر حذراً من الوقوع في الزلل، وحسبما يعبّر الفقيه الكرباسي: (إن حركة دفع الكفّارات- الغرامات- تولّد في المجتمع حالة من المناعة من العمل الفوضوي وتُصلح المجتمع، لأن المجتمع الصالح ذلك المجتمع الذي يدرك الأخطاء ويتفاداها).

ولعلّ من أهم أغراض الكفارة ومقاصدها هو شد لحمة المجتمع وتقوية شبكة علاقاته، وخلق مجتمع سليم قادر على تحمل مسؤولياته تجاه نفسه والمجتمعات الأخرى، لاسيما وأن الشرع الإسلامي وجّه بوصلة الكفارات باتجاه قلب المجتمع نفسه، عندما طالب المذنب بتحرير الرقبة أو اطعام الفقراء واكسائهم أو التصدق وأمثال ذلك، وبتعبير الفقيه الكرباسي انها: (تعد من الموارد الاقتصادية للدولة أو المؤسسات الاجتماعية، وهي كفيلة لتحمّل جزء كبير من العجز الاقتصادي الذي تشكله الشريحة التي تعيش تحت خط الفقر، ففي هذه الحالة نجد أن الكفارة لها تأثير اصلاحي في نفس وسلوك المذنب، ومن جهة أخرى فإن فيها إصلاحاً للحياة الاقتصادية بل والحركة الاقتصادية بشكل عام). وحيث كان سوق العبيد عامراً قبل الإسلام بسبب الحروب، فإن الكفارات هي واحدة من السبل الظريفة التي أوجدها الشرع للقضاء على سوق النخاسة.

وإذا كانت مرحلة العبيد قد أنهاها الإسلام بتشريعاته الحكيمة، فان الكفارات كذلك تدخل عاملا كبيرا للقضاء على الفقر الملازم للبشرية مادامت هناك نفوس جشعة تحتكر وتغتني على حساب الآخر، ومادامت هناك أياد ظاهرة وأخرى خفية تشعل الحروب هنا وهناك، ومادامت هناك حكومات تخلق سياساتها العامة الفجوة العميقة بين الغني والفقير، فالفقر كان ولازال آفة كل عصر ومصر، والكفارات واحدة من الأوجه السليمة لمواجهة هذا المرض الإجتماعي، وقد أولاه الشرع الاسلامي أهمية كبرى، فجعل ذبح الأنعام واطعام الفقراء جزء من الكفارة التي قرنها بالعبادة، ولذلك لا يتحقق الإطعام الا بالنية الصادقة والقربة إلى رب الفقراء.

 واشترط فيه أموراً كثيرة منها: إشباع الفقير ولذلك يقول الفقيه الكرباسي: (لا يجُزي الإطعام عن الكفّارة إذا لم يُشبع بشكل عُرفي)، ولابد أن يكون عن طيب خاطر بلا منّة ولا أذى ولا سمعة ولا رياء، ولهذا: (إذا أطعم الفقراء رياءً لا يكفيه عن الكفّارة)، إلا لغرض أسمى كما يعلّق الفقيه الغديري وهو: (إذا كان إظهاره وتبليغه وإعلانه بقصد الترويج لطاعة الله وارشاد الآخرين نصيحةً وهدايةً فيكون له الأجر والثواب شرط أن يكون خالصاً لمرضاة الله). بل وعمد الشرع الى احترام الفقير من خلال دعوة المكفّر صاحب الطعام إلى الإمساك عن أخباره عن الغرض من الإطعام، إذ: (لا يجب إخبار الفقير بأنه أطعمه لأجل الكفّارة)، وبتعبير المعلق: (بل وقد يُستحب إخفاء ذلك عنهم حفظاً لحرمتهم، وقد يُحرم ذلك إذا كان يوجب الإهانة في حقِّهم)، وأن لا يكون المكفّر ضنيناً بالطعام ونوعه، ولهذا كما يشير الكرباسي: (يُستحب أن يُطعم الفقير مما يأكله وعائلته)، كما: (يجوز أن يسلّم الطعام الى المحتاج ولا حاجة إلى إطعامه)، فالغرض من الإطعام هو احترام الفقير وادخال السرور على قلبه والرفع قدر الإمكان مما هو فيه واشعاره بقوة شبكة العلاقات الاجتماعية، وهذا التراحم في واقعه يزيد من العطاء والخير من حيث يحتسب الإنسان أو لا يحتسب، ويقلل بشكل كبير من الأمراض الإجتماعية والنفسية.

إذن فالكفارة عن اقتراف الخطأ أو ترك ما ينبغي فعله، ليست مدعاة لغفران الذنوب فحسب، فأبعادها الاقتصادية والاجتماعية هي المنشودة في الشرع الإسلامي، وقد التفتت المحاكم الغربية الى هذا الأمر، فعمدت في بعض الجنح الى استبدال السجن بالغرامة المالية أو الخدمة الإجتماعية، أو كلتاهما معاً فيأمر القاضي المذنب على سبيل المثال، بالعمل لمائة ساعة أو أكثر أو أقل، في مؤسسة اجتماعية أو خيرية أو دار للمسنين أو الأيتام أو المشردين وأمثالها، أي التكفير عن الذنب بالعطاء المادي أو بالعمل الاجتماعي.

وفي اعتقادي أن المرء، من ذكر أو أنثى، عليه أن يطلع على موارد الكفارات من أجل تلافي اقتراف الذنب والخطأ، فهناك ممارسات غير سليمة تُمارس دون أن يدرك المرء خطأها، وتلزمه الكفارة لرفع تبعاتها، تبدأ من فراش الزوجية ولا تنتهي عند عتبة الدار، وكتيب "شريعة الكفارات" يشير الى موارد الكفارات، والوقوف عليها يغني المرء عن الوقوع في وحل الأخطاء والزلات.