من مسيرة الإمام الحسين(عليه السلام) التي كانت في سفرها الخالد عطاء دائم غير منقطع النظير لكل الإنسانية، من تلك المسيرة التي قدر لها بأن تكون مثابة ثورية، وفيصل مهم في حياة الأمة الإسلامية، ما زال الأثر يتبع الأثر والرسالة تشع حروفها بنور الشهادة وعزيمة الإصرار على الثورة والتغيير، ومنذ ألف وأربعمائة عام ما زال أسم الحسين يبعث كل ما هو خير في روح هذه الأمة، ويستنهض الهمم في كل بقاع المعمورة، حتى تلك التي لاتدين بالإسلام.
خلال تلك الحقبة التي امتدت لأكثر من 14 قرناً، لم يدر في خلد من أوعز وأمر وأقدم على قتل الحسين، أن تلك الدماء الزكية التي أٌريقت على أرض كربلاء في العاشر من حرم الحرام سنة 61 هجرية ستتحول مع مرور الأيام، إلى علامة فارقة في جبين التاريخ، ليس التاريخ العربي والإسلامي وحده، بل التاريخ الإنساني وليس التاريخ الذي كتبه قتلة الحسين، بل التاريخ الذي كٌتب بدواة الثوار ومداد دمائهم أينما كانوا، بمشارق الأرض ومغاربها، فالحسين لم يكن بالشخصية العادية العابرة في مسيرة الأمة الإسلامية، فهو سبط النبي محمد (صلى الله عليه وعلى آل بيته وسلم)، وهو ابن علي ابن أبي طالب (عليهم السلام)، بطل الإسلام ووصي رسول الله (عليه وعلى آله أفضل السلام) إمام المتقين وأمير المؤمنين بلا منازع، وهوابن فاطمة الزهراء بضعة رسول الله وسيدة نساء العالمين (عليها السلام) وهو القرشي الهاشمي سليل بني هاشم، كيف لا وهو من قال فيه جده الحبيب المصطفى (ص) ( الحسين مني وأنا من حسين أحب الله من أحب حسينا).
إذن فرجل مثل الحسين، لن يكتب عنه التاريخ إلا باللغة التي تحدث بها عنه جده رسول الله (عليهما الصلاة والسلام) رجل رسمت له الأقدار مساراً لا يحيد عنه ولا ينكسر، ولن يكون مصيره إلا بالطريقة التي خطها له جده رسول الله، وهو عارف بكل التفاصيل التي عليه خوضها قبل ان يتوجها بالنهاية التي تنتظره.
فكانت ثورته من لحظة خروجه من مكة المكرمة في الثامن من ذي الحجة وحتى استشهاده في كربلاء، مدرسة حافلة بالدروس والعبر، ففي كل لحظة منها كان هناك درساً بليغاً للإمام الحسين، وفي كل شبر من أرضها كانت هناك مأثرة تركها الحسين وأهل بيته وصحبه، وفي حديثه مع أخيه محمد ابن علي حين حاول أن يثنيه عن التوجه للعراق، كان الحسين يدرك عمق الهدف الذي هو بصدده وما ينتظره بالعراق، فلقد أجاب أخيه، بأن جده رسول الله قد أخبره: شاء الله ان يراني قتيلا، وحين سأله عن النساء، أجابه : وشاء الله أن يراهنّ سبايا، فلقد كان الإمام الحسين يعرف المصير الذي ينتظره وينتظر عياله وصحبه، وذلك ليس مستغرباً ليس بحسابات عصره، وما كان يستنتج من الأحداث التي كانت تمر بها الأمة الإسلامية آنذاك، بل من قيمة الرسالة التي يحملها الحسين، والتي هي امتداد لرسالة جده رسول الله (عليهما الصلاة والسلام)، وفاصلة تاريخية في تسلسلها الزمني والجهادي، فلم يكن خروج الحسين عفوياً ولا دعوة لتحقيق مآرب شخصية وقبلية، بقدر ماكان خروجاً ثورياً
مباركاً بعناية الله وتوجيهه، ففي رسالة له من مكة إلى أهل المدينة كتب الإمام الحسين (عليه السلام) : من لحق بي استشهد ومن لم يلحق بي لم يدرك الفتح.
ففي هذه العبارة الموجزة لخص الإمام الحسين المعنى الحقيقي في خروجه على حكم الطاغية يزيد، فطريق الحسين طريق الشهادة والإستشهاد لمن أراد ان يلحق به، أما من اختار غبر هذا الطريق، فلقد خسر الفوز العظيم، وهو الفوز بالفتح، الفتح الذي لاتكون مغانمه ومكاسبه دنيوية بحته، بل هو فتح الفتوح كما ذكره أحد المفسرين لمسيرة الحسين، الفتح الذي لم يتحقق لمن سبقه من حكام وفاتحين، حينما تكون التضحية بالنفس عماد امتلاك ناصية التاريخ لأبد الآبدين، على مدى العصور وحتى قيام الساعة، لتكون النبراس الذي يٌقتدى به، والمسيرة التي يتمناه كل الفاتحين.
وفي كربلاء كانت للبطولة حكاية وأي حكاية، حكاية الثلة الخيرة من بيت النبوة ومن اصطفاهم الإمام الحسين (عليه السلام) معه برحلته تلك، التي انتهى بها الرحال في أرض كربلاء، ليحولها من أرض الكرب والبلاء إلى أرض البطولة والفداء، فكانت المنازلة الحقة بين كتيبة الحق ضد جحافل الباطل، ولم يشأ الإمام الحسين أن يفوت تلك الفرصة العظيمة في إقامة الحجة على أعدائه، حين خاطبهم معرفاً نفسه: ألست أنا ابن بنت نبيكم وابن أول المؤمنين إيمانا والمصدق لله ورسوله؟ لكن القوم كما قال قد استحوذ عليهم الشيطان، ولم يكونوا بحاجة لمن يرشدهم إلى طريق الصواب بعد أن أعمتهم دراهم يزيد، فلقد كان الحسين قبل ذلك يدرك معادن الناس الذين هو ذاهب لقتالهم ففي خطبة له في الطريق إلى كربلاء قال مخاطباً أصحابه وأصحاب الحر: إن هؤلاء قوم قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمان وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود واستأثروا بالفيء واحلوا حرام الله وحرموا حلاله.
فلقد غلب القوم طاعة أولياء الأمر، حتى لو كانوا يقودونهم إلى طريق الشيطان والمعصية، ونسوا او تنتاسوا طاعة الرحمن، ومن أوصاهم الله باتباعهم أولياءالله الصالحين، واستأثروا بالفيء الذي هو بيت مال المسلمين يجعلون منه سبباً في الإنحراف وشراء الذمم، والعمل بكل ماحرم الله ومخالفة ماأحلّه، ولقد كان الحسين وأصحابه القلة القليلة من المؤمنين الصابرين، هم الثلة التي اختارها الله لتعيد تقويم دين الله دين الحق، فالحسين يعلن لمن حوله أنه لم يخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً إنما خرج لطلب الإصلاح في أمة جده رسول الله (عليهما الصلاة والسلام) وهي رسالة واضحة المعالم لمن يريد أن يعرف طريق الحق، لكن طريق الحق دائماً موحشاً من قلة سالكيه، كما يقول الإمام علي (عليه السلام)، والرسالة العظيمة لم تعيها عقول القوم الناقصة، بل هي في شغل شاغل عنها في اختيار مكاسب الدنيا ومغانمها، كما كان يفكرعمر ابن سعد، وغيره من رموز النظام الأموي، ولقد كان الإمام الحسين (عليه السلام) قارئاً جيد لتفاصيل عصره وأحداثه، فلم يعد الزمان زمان الأنبياء ولا حتى الرجال الصالحين، بل زمن الملوك والحكام والولاة والطغاة المارقين، الذين تلبسوا بلباس الدين، وجعلوا من كتاب الله وسنة نبيه ما يحقق لهم مصالحهم ومصالح من يرتبطون بهم، وها هو الإمام الحسين يضع النقاط على الحروف لتكتمل الصورة، التي كانت بحاجة لحكمة رجل صالح وناصح ودماء إمام، يقولها بروح مطمأنة وقلب خاشع: إن هذه الدنيا قد تغيرت وتنكرت وأدبر معروفها فلم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء وخسيس عيش كالمرعى الوبيل ألا ترون أن الحق لا يعمل به وأن الباطل لا يتناهى عنه ليرغب المؤمن في
لقاء الله محقا فإني لا أرى الموت إلا سعادة ولا الحياة مع الظالمين إلا برما إن الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت معايشهم فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون.
فهل هناك أبلغ من هذا الدرس، بلا، ربما كان العالم يحتاج لما هو أبلغ، وكان الحسين حاضراً ليقدم الغالي والنفيس، حين قدم أولاده وأخوته وأبناء عمومته، وأبناء أخوته حتى الطفل الرضيع لم يبخل به، من أجل رسالة جده وإحياء الدين، وكأنه يتمثل قول شاعر العرب الأكبر الجواهري: وأن تُطْعِمَ الموتَ خيرَ البنينَ مِنَ "الأَكْهَلِيـنَ" إلى الرُّضَّـعِ
نعم لم يبخل الإمام الحسين لا بدمه ولا بدماء عترته، بل أنه توج هذه الملحمه بأجمل العطاء وأجوده، والجود بالنفس أقصى غاية الجود، حين قدم دمه الشريف وروحه الزكية أضحية لدين الله ورضا الله، حين خاطب ربه وهو يجود بانفاسه: أن كان هذا يرضيك فخذ حتى ترضى.
سلاماً لك سيدي حين ولدت وحين تموت وحين تبعث حيا، وليكن الإمام الحسين(عليه السلام) وواقعة الطف المدرسة التي منها نستلهم الدروس، ونتعلم منها العبر، ولتكن كربلاء منارة الثائرين وقبلتهم.