الحسين قضية ضمير

لم هذا الاستذكار الصميمي للحسين؟.. سؤال من لا يعرف الحسين قضية ً، وهو يرى تآلف الحس الجمعي للعارفين بمكانته، والحماس لإحياء يومه باحتفاء نادر، لا يكون لسواه من الشهداء.
وحده، الناظر، في لحظة ضمير، وبتجرد، إلا من وعيه الإنساني العميق، سيجد الإجابة الشافية عن سؤاله، وسيفهم ملياً قضية الحسين كما فهمها عظماء التاريخ، ووقفوا على حكاية المجد؛ أن يكون مظلوماً فينتصر، ومقتولاً فيفوز.
ثمة من يثمن أيضاً هذه البسالة والتضحية، لكنه سيقف حزيناَ لمصير الحقَّ، بوجوه أناس بكى عليهم الحسين، وكأنه يعيد كلمة السيد المسيح: ربي اغفر لهم إنهم لا يعلمون. والسؤال: هل مكر الجهل بالحقَّ..أم إن السيوف التي "استباحت بني الأكرمين" رسخته؟.. حزن السؤال عميق ومرير، وكم كان بوح الشاعر المصري أمل دنقل حقيقياً في وصف مستوى النكبة واليأس:" إن تكُن كلماتُ الحسين..وسُيوفُ الحُسين..وجَلالُ الحُسين..سَقَطَتْ دون أن تُنقذ الحقَّ من ذهبِ الأمراءْ؟..أ فتقدرُ أن تنقذ الحقَّ ثرثرةُ الشُّعراء؟..والفراتُ.. لسانٌ من الدمِ لا يجدُ الشَّفتين".
كل الكلمات ستكون ثرثرة إذن، ولا تنجز ما أنجزه الدم من حضور عَبَرَ التاريخ، لا بالمستذكرين لتلك المأساة، لكن بقوة الحدث نفسه، قوة أن يعرف الجميع، وأولهم أعداؤه، بأنه لم يخرج أشراً ولا بطراً، بل بدافع الإصلاح، مدعوماً بقوة شعبية هائلة، وجهت إليه الدعوة ليكون معها في ثورته على الظلم، وهذا ما تثبته جميع كتب التاريخ، التي تؤكد إن الحسين كان في أيامه أكثر قبولاً وأشد حضوراً عند الناس وبلا منازع، وما كان لأحد أن يُقارَنَ بنفوذه في أرواح العامة، ومن كانوا بصدد بيعته هم رأي عام، ليس في العراق فقط، بل في عموم الدولة وأصقاع نفوذها يوم ذاك. ولعل من يسأل هنا: إن كان للحسين كل هذا الحضور والتأثير، فلِمَ تخلى عنه الناس، ولِمَ تُرك وحيداً لانتقام من أرسلهم (يزيد بن معاوية)؟.
الإجابة على هذا السؤال يعرفها كلّ من عاصر نظاماً دكتاتورياً قمعياً مستبداً، يستطيع بين ليلة وضحاها أن يحرف المعايير ويقلب الموازين، بقوة المال أو بالبطش والتعسف، وسيعرفها تماماً هذه الأيام من يكابدون الألم والمعاناة تحت جور عصابات إرهابية، بدأت تعيث فساداً ورعباً، وتتخذ من الدين وسيلة لفرض العنف طريقة في الحياة، وإكراه الخلق على ما لا يرغبون. تلك العصابات احتلت مدناً وأسست لنفوذ وسطوة أصبح الناس تحت عصفها ضعفاء لا يلون على شيء، مدركين بحزن؛ كيف يجبر السيف الحق على الغياب، أو التراجع إلى جهة الترقب والحذر دون فعل مؤثر. سيفسرون سرّ الخلود، مكتشفين إن قضية الحسين هي المعادل الموضوعي للحق ذاته؛ حين يكون جماهيري الحضور، وتنتهكه عصابة ضالة. سيتجاوزن طقسهم الشخصي، الآني، الحزين، إلى طقس بطولة يستلهمون منها المواجهة، بإيجاد وسيلة للنصر الميداني، أو النصر بالشهادة.