بالأمس كان هناك المئات نساءً ورجالاً ازدحمت بهم قاعة بيت المدى في شارع المتنبي، وكانت المناسبة الاحتفاء بالمطربة المغتربة سيتا هاكوبيان، الفنانة الرقيقة البسيطة التي أصبحت أغنياتها جزءاً من كنز مشاعرالعراقيين، يستعينون بمحتوياته حين تعصف بهم خطب الساسة وحروبهم .. على أصوات آلات العازفين وهم يقدمون "بهيدة" و"الولد الولد " و"ما اندل دلوني"و" تحب لو ما تحب"، الجميع يغنون ويصفقون مع تصاعد صوت المطربة، وكأنهم يستمعون الى النشيد الوطني فتلمع العيون بدمع واحد، والوجوه بشجن عراقي.. حتى يخيل اليك انهم يكتشفون أغنيات سيتا هاكوبيان للمرة الاولى، او انهم يعيدون اكتشاف العراق الكبير الذي يريد له البعض ان يرقد تحت ركام من سياسات غير مسؤولة ، وخطب وشعارات سيئة الصيت والسمعة. انظر الى وجوه شروق العبايجي ونهلة النداوي وبشرى العبيدي وغادة العاملي وسافرة جميل حافظ وأخريات ممن ملأن القاعة بـ"الهلاهل" وهن يرددن كلمات الاغاني بفرح وشجن فتشعر أنهن محاربات، يستحضرن كل شجاعتهن من اجل أن يبقى العراق كبيرا، فتيا، متدفقا بالحيوية، ويدهشك في وسط هذه الأجواء المسكونة بالحنين أن لا احد تذكر ما قاله المالكي قبل يوم من أن الحرب الطائفية على الأبواب ولن يسلم منها احد. الحضور أمس في المتنبي كانوا هم الأكثر انفعالا بالغناء لعراق غير طائفي، على نحو تحولت أمامه كل تهديدات رئيس الوزراء، من أن هناك من يتآمر على وحدة البلاد مجرد نكتة ضاعت وسط صوت شجي يخبرنا بأننا امام خيارين اما نحب بصدق او لا نحب، وفي الحالة الثانية فقط تتحول البلاد عند ساسة لايعرفون الحب الى مجموعة من المصالح الخاصة التي يريد البعض ان يحقق من خلالها الحد الأقصى من الأرباح الشخصية. انظر الى وجوه نسوة بلادي، وأتذكر كلمات المالكي فاضحك متخيلاً الكارثة التي يلوح بها رئيس الوزراء ، لو ان الجميع لم ينصاعوا لأوامره ويصبحوا جزءا لا يتجزأ من قبضته الحديدية، التي انتشرت علائمها في بوسترات انتخابية متجهمة تخيرنا بين القوة او الفوضى. بالأمس كنت اضحك كلما أطلقت شروق العبايجي "هلهولة" تخبرنا فيها إن هذه البلاد ستظل بخير، على الرغم من كل الخطب والشعارات التي تريد ان تصور لنا أن المالكي وحده القادر على إنقاذنا من الكوارث ، وأن قبضته هي التي لن تجعل عقد البلاد ينفرط. يريدون أن يوهموا الناس ان مشاكلهم ستحل لو انهم ارتضوا بحكم الرجل القوي، متناسين ان اعواماً مرت من اعمارنا دون ان نرى فيها ملامح عقد حقيقي وواضح بين المسؤول والشعب.. دون ان تشعر الناس ان العقل الذي يدير السلطة هذه الايام يختلف في شيء عن العقل الذي حكمنا لعقود طويلة. خطاب المالكي وما جرى بعده في الموصل يثبت بالدليل القاطع أن ما من لحظة شعور بالمسؤولية ، ما من مراجعة للأخطاء.. اصوات تريد منا ان نعود الى طوائفنا من اجل ان نتقاتل على الهوية .. ان نعود الى عصر الغابة حيث الحماية في ظل العشيرة لا في ظل القانون. بالامس عشنا في شارع المتنبي مع يوم عراقي ناصع ، فيما عاش لنا أهل واشقاء في الموصل يوماً اسود مثل ظلام عقول ساستنا ، وفاحشاً مثل غياب الرحمة. يوم يريد فيه البعض ان نعيش معه سنوات جديدة من الفرقة والخراب. كل كتب التاريخ تعلمنا إن الدكتاتورية لا تبني دولا، مهما كانت الشعارات التي يرفعها أصحابها والأكاذيب التي يأتون بها. بالامس في بيت المدى عشنا مع نساء ورجال يعرفون جيدا اهمية وقيمة العراق ، ويحترمون تاريخه وذاكرته، أكثر بكثير من صغار الساسة الذين يتقافزون امام الفضائيات على ايقاعات مثيرة للضحك والخجل ، بالامس جعلتنا هلاهل نسوة المتنبي ندرك جيدا ان هذه البلاد اكبر من كل خاطفيها من السياسيين ممن لا يعرفون قدرها جيدا. فيا ابناء بلدي الطيبين ، أنصتوا الى خفقات قلوب نسوتنا الطيبات، واستمعوا الى صوت شلش العراقي ، وهو يقول لكم لا تخافوا غيوم المالكي، فهي غيوم عابرة، فحتماً هلاهل شروق وزميلاتها أكثر صدقا وتمسكا بالأمل. |