العراق تايمز: كتب "قانوني قديم".. في أواسط السبعينات صدر قانون إصلاح النظام القانوني وأبرز ما فيه: (يترأس مجلس القضاء وزير العدل) وهذا مخالف للدستور ويلغي استقلالية القضاء حيث تصبح السلطة التنفيذية مسلطة على السلطة القضائية وهذه مخالفة صريحة للدستور، واختلف كبار القضاة في وقتها مع هذا القانون وأولهم المرحوم محمود القشطيني رئيس مجلس القضاء ورئيس محكمة تمييز العراق، وكذلك المرحوم مالك الهنداوي رئيس الادعاء العام وعضو محكمة التمييز الذي تنحى عن منصبه وعاد إلى محكمة التمييز، والمرحوم عبد الفتاح الأورفلي رئيس هيئة الإشراف العدلي الذي أحال نفسه على التقاعد، وهو من علماء العراق في اختصاصه ،والمرحوم عبد القادر الجنابي مدير العدل العام، وللتوضيح فإن وزارة العدل في هيكليتها فيها مدير عام واحد وهو (مدير العدل العام) ويكون مديرها العام عضوا في مجلس القضاء.
تنحى المرحوم عبد القادر الجنابي عن منصبه وعاد إلى عضوية محكمة التمييز، وقدم كثير من القضاة على الإحالة على التقاعد وأذكر منهم: القاضي المرحوم محمد زينل رئيس جنايات الكرخ والمفتش العدلي، وكذلك القاضي المرحوم رشيد باجلان، والقاضي محمد شاهين الصوفي، والمرحوم عارف رشيد العطار، والمرحوم عبد القادر إبراهيم وكلهم رؤساء جنايات (محكمة كبرى) وقضاة آخرين أحيلوا على التقاعد وآخرين تم نقلهم إلى مناصب أخرى.
تم تعيين القاضي ساكن النورجي رئيساً لهيئة الإشراف العدلي وكان هذا الرجل فضاً غليظ القلب، وسبب كثيراً من الأذى لكثيرين في عهد وزارة الدكتور منذر الشاوي ،وتم تعيين المرحوم غسان الوسواسي رئيساً لهيئة الادعاء العام وكالة وهو رجل طيب خلوق مؤدب ويعتبر واحد من طلاب المرحوم مالك الهنداوي، وكذلك عين المرحوم راشد الشواف مديراً للعدل العام وكالة وهو نائب مدعي عام وكانت إمكانياته محدودة، وكل هؤلاء السادة عينوا بالوكالة لتكون عملية تغييرهم من صلاحية الوزير، وهذه الفكرة الشيطانية من جعبة مدحت المحمود الذي نسب للعمل في دائرة إصلاح النظام القانوني؛ وكما هو حال حكومة المالكي المنتهية التي اعتمد فيها هذه الطريقة وأصبح عدد من الوزراء يمارسون مهامهم بالوكالة؟!
أما رئيس مجلس القضاء ورئيس محكمة التمييز المرحوم محمود القشطيني وهي أعلى سلطة قضائية، فقد اعترض على قانون إصلاح النظام القانوني الذي ألغى استقلالية القضاء وجعل من السلطة التنفيذية مسلطة على السلطة القضائية وهذه مخالفة صريحة للدستور العراقي وبذلك يصبح وزير العدل رئيس مجلس القضاء، وفي أول اجتماع لمجلس القضاء وبرئاسة وزير العدل بلغ رئيس محكمة التمييز بالحضور للاجتماع فكتب هامشه التأريخي بعدم الحضور إلى مجلس القضاء إلا بغياب وزير العدل.
ولم يصدر أي رد فعل من وزارة العدل ولم يحضر رئيس محكمة التمييز أي اجتماع لمجلس القضاء وقد أحيل رئيس محكمة التمييز بعد اكثر من سنة على التقاعد، وللتأريخ كانت رغبة رئيس الجمهورية المرحوم أحمد حسن البكر بقاء رئاسة محكمة التمييز للمرحوم القشطيني إلا إنه لم يحصل ذلك لأسباب سياسية، وفعلاً أحيل المرحوم على التقاعد، ويوم انفكاكه كان يوماً مشهوداً للقضاء العراقي حيث ودعه قضاة العراق بتجمع صامت وملأتهم الحسرة على خسارة القضاء العراقي لهذا القاضي العام، وللتأريخ نذكر أنه في يوم وفاته كل قضاة العراق وشخصيات العراق ساروا خلف نعشه وحتى كبار السن والمرضى، رحم الله رئيس محكمة تمييز العراق ورئيس مجلس القضاء العالي وكبير قضاة العراق المرحوم محمود القشطيني.
تمّ تعيين أحد القضاة رئيساً لمحكمة التمييز وكالة، وقام السيد وزير العدل الدكتور منذر الشاوي بزيارة إلى محكمة التمييز بعد إحالة رئيسها على التقاعد واجتمع مع الهيئة العامة لقضاة محكمة التمييز وهم أكثر من عشرين قاضي تمييز، وألقى كلمة في اجتماعه معهم وهو بليغ الخطابة وقال: قدمنا لنفتش محكمة التمييز وهنا أخذ القضاة ينظرون لبعضهم فانبرى القاضي المرحوم عبد القادر الجنابي ورفع يده مقاطعاً السيد الوزير وقال: يا سيادة الوزير المحترم محكمة التمييز أعلى سلطة قضائية لا تفتش فإن قدمت زائراً على الرحب والسعة وإن قدمت مفتشاً فهذه تشكل مخالفة لا تليق بمقامكم، وهنا ترك السيد الوزير الاجتماع وخرج غاضباً وذهب وعرض الموضوع على القيادة العليا وصدر أغرب قرار لمجلس قيادة الثورة حيث أحيل القاضي المرحوم عبد القادر الجنابي على التقاعد مع اعتبار خدمته الممتدة لثلاثين عاماً غير قضائية.
وهنا أرسل المرحوم رسالة إلى القيادة وبعد المقدمة قال: يا سيادة الرئيس انا قاضي ما يقارب ثلاثين عاماً، وعملت قاضياً في الكثير من محاكم العراق فإذا كانت هذه الخدمات القضائية غير قضائية فيتوجب النظر بأحكامي كلها، وأنا أستغرب لصدور مثل هذا القرار وأحكامه من الدائرة القانونية في رئاسة الجمهورية، وعندما قرأ رئيس الجمهورية الرسالة قال: هذا الرجل على حق وقد ألغي القرار.
واستمر الحال في وزارة العدل وعقد اجتماعات يومية مع قضاة وأساتذة الجامعة وقانونيين واستعان بأساتذة القانون وقضاة آخرين، والحقيقة وللتأريخ انهم متمكنون وأذكر منهم للتأريخ الدكتور صفاء الحافظ، وهو أستاذ جامعي مرموق وكان قد ألقي القبض عليه وهو يعمل بهذه اللجان في وزارة العدل ومصيره أصبح مأساوياً ولم يتمكن وزير العدل أن يقدم له أي عون، والتف حول وزير العدل بعض القضاة الذين يبحثون عن المنفعة وكذلك عدد من نواب المدعين العامين، وبالنتيجة لم ينجز شيء من برنامجه القضائي سوى المعهد القضائي الذي كان السبب الرئيس بهبوط مستوى القضاة في كل المجالات.
وقدم الوزير قانوناً إلى المجلس الوطني للمصادقة عليه ملخصه بأن الولد المتبنى يرث متبنيه ويجب الإرث عن المستحقين شرعاً، وهذا القانون يخالف القرآن الكريم نصاً وروحاً، وللتأريخ فإن أعضاء مجلس النواب عارضوا هذا القانون وتصدوا له ولم يمر القانون وأعيد إلى ديوان رئاسة الجمهورية ووقعت ملامة على وزير العدل، أما القانون الثاني وهو قانون أموال القاصرين وكان المدير العام في وقتها القاضي يوسف المعمار وعارض هذا القانون بإجماع القضاة، وهنا قدم القاضي عبد الستار البزركان طلب أعفائه من منصب رئيس الادعاء العام وكالة وانصرف للقضاء.
على أثر هذه المواقف للقضاة اجتمع بهم رئيس الجمهورية ومن على شاشة التلفزيون، فند القضاة كل ما جاء به الدكتور منذر الشاوي وأخذ القاضي أكرم الدوري رحمه الله بشرح بعض أفكاره إلى رئيس الجمهورية وهو يضرب على الطاولة بيده، وتمكن القضاة من اقناع الرئيس بأفكارهم وعلى أثر هذا الاجتماع أقيل الدكتور منذر الشاوي وعيّن القاضي أكرم الدوري وزيراً للعدل ولم يتمكن ان يصلح شيئاً لأن قوانين كثيرة قد صدّق عليها، فخرج من الوزارة وقدّم الأستاذ شبيب المالكي للوزارة وهو رئيس جمعية الحقوقيين ورجل قانون ودرجته الحزبية عالية، وبقى المالكي وزيراً للعدل واتسمت وزارة العدل بالهدوء في فترته، ثم تم إقالة الأستاذ شبيب المالكي لكبر سنّه وأعيد الدكتور منذر الشاوي.
وبقدوم الاحتلال المجرم بدأ الأميركان يفتشون عن قضاة ليتعاونوا معهم وطرحوا فكرتهم على رئيس محكمة التمييز في وقتها، فأبى ان يكون رئيساً لمجلس القضاء وألحوا عليه إلحاحاً كثيراً وأبى ان يتعاون مع الاحتلال، وهنا قدّم مدحت المحمود نفسه واستعان بأحد أقاربه الذي قدِمَ مع الاحتلال وعين رئيساً لمجلس القضاء العالي، ومن يوم توليه نفذت مذبحة القضاة من محكمة التمييز التي قتل منها وحدها ستة قضاة مرموقين، وأكثر من عشرات القضاة من الجنايات والبداء والصلح والتحقيق وقضاة نزاعات الملكية.
والآن فقد القضاء العراقي مصداقيته امام الشعب العراقي ونزلت سمعته خارج العراق إلى الحضيض والمثل يقول: (إذا كان ربّ البيت بالدف ناقراً فشيمة أهل الدار كلهم الرقص). أمثلة من القضاء العراقي سابقاً: المثال الأول: دخل الملك فيصل الأول رحمه الله إلى محكمة جنايات الرصافة (الكبرى) وكانت الهيئة القضائية تحاكم متهماً فلم يقطع رئيس المحكمة المحاكمة واستمر، وجلس جلالة الملك رحمه الله على مسطبة المستمعين وحين انتهت الجلسة أصولياً قام القاضي مع مساعديه للترحاب بالملك وهو الذي بنى الدولة العراقية فشكرهم على عدم إنهاء الجلسة وقال كلمته المشهورة (ارتحت لرصانة القضاء العراقي).
المثال الثاني: في الخمسينات من القرن الماضي وقع شغب في مدينة طوزخرماتو وطلب القاضي سحب الحصانة النيابية عن نائبين فحدث صخب في مجلس النواب والمعارضة مصممة على سحب الحصانة النيابية، وكان رئيس الوزراء وقتها المرحوم نوري سعيد ولم يتمكن من استدعاء القاضي وما كان امامه إلا أن يذهب إلى تلك المدينة ومعه سائقه والتقى بالقاضي وشكر القاضي على موقفه القانوني وتم حل الموضوع عشائرياً وتعويض المتضررين.
المثال الثالث: في سنة 1954م صدر حكم مجحف من محكمة جنايات ديالى وكان رئيس المحكمة شاكر الأوقاتي، فنظم الطرف المظلوم كراساً بوقائع المحكمة كلها وأهدى الكراس إلى جلالة المرحوم الملك فيصل الثاني رحمه الله فأصدر إرادته بإعادة المحاكمة وإحالة رئيس المحكمة على التقاعد.
المثال الرابع: في عهد عبد الكريم قاسم قدم الحزب الإسلامي إجازة للعمل ولم يمنحه الحاكم العسكري العام الإجازة، فميّز الحزب الإسلامي القرار لدى محكمة التمييز فجن جنون الحاكم العسكري العام، ويذكر انه سبق وتم بناء بناية للمحكمة في القشلة ممتدة من الساعة وحتى نهاية بناية مجلس الوزراء ومكونة من ثلاثة طوابق، وزار عبد الكريم قاسم القشلة ووزارة العدل وعند خروجه وقف عند البناية وهو يعلم أنها لمحكمة تمييز العراق، فسأل لمن هذه البناية فقال له مرافقوه: إنها لمحكمة التمييز، فقال بناؤها هنا خطأ فهي تحجب منظر دجلة وأصدر أمراً بإزالتها وهي شبه كاملة والمثل يقول (لم يتمكن على البشر كسر الحجر)، وفعلاً أزيلت البناية لرغبة الزعيم الأوحد وبقت محكمة التمييز شامخة ملجأ لكل مظلوم، ولكن الاحتلال افسد القضاء العراقي ودمره بالقضاة الفاسدين ونقول رغم كل الفاسدين: سينتصر العراق.
|