نحن والموازنة

بعد اربعة شهور من النقاشات والجدل العقيم، صوّت مجلس النواب على الموازنة العامة، وبهذه المناسبة السعيدة ينبغي ان يعبّر الشعب عن فرحته وسروره بهذا المنجز، الذي أخذ كل طرف سياسي يتباكى من التأخير في اقرارها على المواطن، برغم ان 700 مليار دولار من عوائد النفط في الموازنات السابقة لم تحسن من الوضع الاقتصادي لطبقات الشعب المسحوقة، وكانت مؤشرات البلاد في تراجع مستمر خدمياً وعمرانياً، وتلاشت قطاعات اساسية في تكوين الاقتصاد العراقي، وهي الزراعة والصناعة والسياحة، واختفت التجارة الداخلية، مع اختفاء المنتوج الوطني، واصبحنا نراهن على المستورد من الفواكه والخضراوات، حتى الصناعات الانشائية والخفيفة والثقيلة، وبات العراق سوقاً استهلاكية تتنافس عليه الدول الناشئة والشائخة في الانتاج.

ومن المحزن ان مهندساً في مشروع بسماية السكني، همس في بعض الاذان الاعلامية، قائلا: ان المشروع يعتمد على ايران في تجهيزه بالسمنت والألمنيوم، والزجاج، والأبواب، وانابيب الماء والمجاري، وكأن هناك نية لحل أزمة ايران الاقتصادية، اكثر منها حل أزمة السكن العراقية، فيما يشكو معمل سمنت الكوفة من تكدس المنتوج عنده، وهذه الفارقة التي تجعل المنتج الوطني مكدساً لصالح المستورد، مع أنه يمتاز بالجودة، ولعل العراق بني من هذا السمنت المحلي، لكن هناك من يقدم الجار على أهل الدار، في الصناعة والتجارة، بل وحتى السياسة.

الغريب انه في كل سنة تدخل البلاد في أزمة اسمها اقرار الموازنة، لكننا لم نسمع عن أزمة في اقفال حسابات الموازنة السابقة، لانه ببساطة لايوجد مثل هذا الاجراء اصلاً، أي الاقفال ولعلهم فطنوا الى ذلك،فخرجت الينا تسريبات عن مراجعة لموازنة 2010 لاقفالها، ويعني ذلك ان عملية الاقفال تأتي بالآجل، أو "بالبايت"، وهناك أمام الاقفال المنتظر ميزانيتان هما 2011 و2012 ربما سيأتيهما السرة بعد سنتين، مع ان النظرية الاقتصادية تؤكد ان الموازنة الجديدة لاتقر الا بعد اقفال حسابات الموازنة السابقة، لكن يبدو ان السياسة العامة في البلاد لا تريد ان تدخل في مشاكل "الاقفال" و"الاقرار" معاً، لأن المطبات لاتخلو منهما وتجاوزها لايتم الا بعد توافقات سياسية ومصالح مشتركة، وهذا يعيق بالتأكيد عمل الدولة، ويضر برموزها بالتحديد.

المواطن يقحم دائماً بالموازنة، حتى اصبح بعضهم يراهن عليها في ترويج حملته الانتخابية، ويهدد من تأخير اقرارها على اساس الاضرار التي قد تلحق بالمواطن، لكن منذ ان تحققت الميزانيات الانفجارية في البلاد وواقع هذا المواطن لم يتحسن، بل يسوء في كثير من الاحيان، وفيما يطرح أحد اصحاب القرار مشروع بناء البيوت واطئة الكلفة للفقراء تزامنا مع انتخابات المجالس المحلية، يسأل آخرون: لماذا هناك في الأصل فقراء، ونحن دولة غنية، ولدينا ميزانيات انفجارية لم يشهدها العراق من قبل، وهي تعدل ميزانيات دول مجتمعة معاً؟.

في كل دول العالم، الزيادة التي تسجل على الميزانية تنعكس بالتأكيد على مواطنيها، الا في العراق، فإن النسب تبقى ثابتة، الاغنياء يزدادون غناً، والفقراء يزدادون فقراً، وهذا ناتج عن الفساد المستشري في البلاد، ويكفي ان نستشهد بتقرير منظمة النزاهة المالية العالمية الذي يقول: "ان 22 مليار دولار من الاموال القذرة الناتجة عن الفساد المالي يتم تهريبها الى خارج العراق سنوياً"، فيما يطل علينا بين أونة وأخرى -مع احتدام الخلافات واشتداد الصراع- مسؤولون ونواب .. بتصريحات عن اختفاء مليارات الدولارات، وصرف اخرى من دون مستندات، في الوقت الذي تؤكد فيه تقارير دولية تزايد الفساد عاماً بعد عام، برغم ان مكافحة الفساد هي الشغل الشاغل لجميع العراقيين.

أما البطالة، فبالامكان التعرف عليها من خلال استعراض بسيط لواقع البسطيات والمهن الجوالة التي تضم جميع الاعمار ومن الجنسين، الى جانب مهن كانت تبدو طارئة، فأصبحت اساسية، لكننا نريد ان نلتزم بلغة الأرقام، ونقدم احصاءات رسمية هنا، حيث تشير بيانات الامم المتحدة الى ان نسبة البطالة بين العراقيين تبلغ نحو 15%، ويبدو انها لم تعد اصحاب "التكاسي" جزءا من حالة البطالة، ولا طواقم اصحاب المولدات، من مصلحين ومشغلين وباعة كاز ومادي الخطوط، الى جانب الباعة على التقاطعات، ومجهزي البنزين التجاري، ونحوهم، وربما حتى المجادي لم تحسبهم ضمن العاطلين، لذا فهذه التقديرات برأي محللين متواضعة، لأن نسبة البطالة تزيد على ضعف النسبة الأممية، لكن الحكومة أدركت خطأ ما ذهبت اليه الامم المتحدة، وأعلنت الحقيقة، كما هي 11% نسبة البطالة!!.

كذلك أقرّت الحكومة مشكورة بوجود 7 ملايين عراقي تحت خط الفقر، ونحو 8 ملايين يتيم وارملة، الى جانب 63 شركة من القطاع العام مفلسة.

اذاً، ما الجديد الذي ممكن ان يطمئن اليه المواطن بعد اقرار الموازنة، ربما البطاقة التموينية الشيء الوحيد الأقرب الى طموحاته، اما الاشياء الأخرى فهي لاتثير اهتماماته كونه لا يمتلك الفرصة السانحة للحصول عليها وفي مقدمتها الدرجات الوظيفية، لأنها محجوزة مسبقاً الا من حالفه الحظ من بين اصحاب الواسطات والرشا والتزكيات.