وعدت قبل فترة بالعودة لموضوع "أمهات السحوره"، وها أنا أرجعُ اليوم إليه مركزا على بلاغةَ متخيّل النساء فيما يتعلق بتأخّر زواجهن ومضي قطاره. هذه البلاغة تنتمي لما يمكن تسميته بـ"المسرحة الرمزية" للرغبة الداخلية للمرأة، وهو أمر يخصّ الإنسان عموما لكنه يرتبط بالنسوة أكثر لأسبابٍ اجتماعية لا تخفى. فصاحبتنا مستضعفة ولا حيلة لها في التعبير عن رغباتها علنا. لذا تلجأ لبلاغة المتخيّل مستحضرة تراثه العريق لإنجاز ما تريده، أو لتطمين حاجاتها عبر متنفس السحر والطقوس الرمزية. أعني الطرق اللاعقلانية التي تمتّد بصلاتها لمرحلةٍ حضارية ولّت لكنّ بعضَ شظاياها عبرت الحقب والعصور لتصل إلينا. لدى البغداديات موروثٌ رائع بهذا الصدد، ترى التي فاتها قطار الزواج مثلا تذهب لمرقد عبد القادر الجيلاني، ومعها قفلٌ ومفتاحٌ وقليل من السكر. ثم تجلس في فناء المرقد واضعة القفل على ثوبها بعد أن تقفله، ثم تضع معه شيئا من السكر. بعد ذلك، عليها انتظار مجيء ذكر "مستطرق" ليفكّ قفلها ويخرجها. فإن أتى الذكر سريعا دلّ ذلك على قرب انفراج عقدتها، وإلا فإنّ "أمورها داجه". في هذه الممارسة المسرحية الجميلة، يقترنُ عددٌ من العناصر الدالّة على مفهوم الخصب. فثمة قفلٌ ومفتاح وحفنة السكر. ومن ثم، هناك ذكرٌ منتظر لابد أن يحضر كمعادل للمفتاح. مجيءُ الرجل هو قدومٌ رمزي للزوج ما يعني ضمنا انفتاح القفل. السكر عنصرٌ رافديني قديم يتفاءل به العراقي ويُطش عادة مع الرز على رأس العروس. أما علّة اختيارُ مرقد الجيلاني فلأنه ارتبط في الذهن الشعبي بالكرامات، بمعنى أنه مكان مثالي لأخذ المراد و"ينطيها بالأيد" كما يقول البغادة. قريب من هذا ما يعمد إليه أهل العريسين، في الجنوب، إذ يفتحون كل الأقفال والأبواب والروازين أثناء عقد القران، فذلك يؤدي إلى فتح أبواب السعادة والرزق أمام الزوجين، حسب اعتقادهم. الأروع من هاتين الممارستين أن تتعنّى متاخرةُ الزواج إلى جامعٍ ذي منارة، ترافقها صاحبتها، ومعها ثوب. ترتقي الرفيقة سطح الجامع، وإذا أمكنها الوصول لأعلى المنارة فعلت. ثم من هناك، تطرح الثوب في الهواء باتجاه الفتاة المنتظرة الفرج. فإن هبط الثوب مفتوحا يتلاعب به الهواء دلَّ ذلك على قرب الزواج وإن هبط ملفوفا كان العكس. تأويل هذه الممارسة، برأيي، يكمن في ارتباط الثوب بالزوج بوصفه سترا للمرأة، والقرينة قوله تعالى "هن لباس لكم وأنتم لباس لهنّ". يعضّد هذا شكلُ الطقس السحري عموما حيث يدور حول مفهومي الانفتاح والانسداد اللذين لمحناهما في طقس المفتاح والقفل. أمّا اختيار منارة الجامع فيرجع لجذور رافدينية قديمة كما أحسب، إذ كانت الكاهنات يتخذن قببا في أعلى الزقورات لممارسة طقوسهن، وهو أمر ما زال ساريا في بعض أعمال السحر. اللهم فرّج عن نسائنا وعجّل في مجيء بعولتهن إنك على كل شيء قدير.
|