لم يعرفوا العراق... تماماً |
لم يكن العراقيون عرباً تماماً، هكذا استمر الخطاب العربي غير المعلن في النظر اليهم، فنصف الشعب «صفوي» بطريقة او أخرى، وعمامات النجف السوداء ليست اكثر من رموز هيمنة ايرانية. لكن الفارسي يحدثنا وتهمته في جيبه ايضاً: عرب العراق لا يروقون له على اي حال، فهم مهاجرون غرباء قدموا من الصحراء، ولطالما طعن مثقفون فرس بالعمامات السوداء، وتحدث الشباب «الإصلاحيون» في طهران عن العمامة العربية التي تقود ايران باسم الدين. لسنا عراقيين تماماً، في نظر الأشقاء والجيران. فالأكراد «انفصاليون» والسنة يتّبعون عرب الجزيرة، والشيعة يسيرون خلف ايران، والتركمان مرجعيتهم تركيا. حيرة ان لا يعرفك الآخرون بمقدار ما تعرفهم، لا تعادلها حيرة. فنحن لا نرقى لأن نكون اصحاب الأرض حتى! من الغرب، يعرف العراق كأرض عربية اغتصبتها ايران، ومن الشرق كأرض ساسانية يستعمرها العرب، وشمالاً هي جناية الإنكليز على خلافة آل عثمان. مهاجرون جمعتهم الحروب والكوارث في ما بين النهرين، خضع بعضهم لنفوذ الصفويين فتشيعوا، واستسلم بعضهم لنفوذ العثمانيين فتسننوا. كأية قارة ما، يكتشفها كولومبوس ما، يحلو للمستشرق الغربي ان يضع هامشاً للسكان الأصليين، ويرطّب حديثه عن تاريخ «جزيرة» اسمها العراق، بأولئك الذين هم اهلها ثم بادوا... مسيحيين وصابئة ويهوداً، بعض بقايا سومر وبابل وأكاد. والغريب ان حديث السكان الأصليين يتكرّر كثيراً، ويردّده بعض العراقيين انفسهم، فنسمع نائباً أو مثقفاً يعيّر سكان بلاده بالأصول الهندية والفارسية والقوقازية! لن يُقنع العراقيون احداً مهما حاولوا القول ان كل تلك المكابدات انتجت شعباً متمايزاً، في صفاته وسماته وسلوكه، وأن ملامح دجلة والفرات والجبل وشيئاً من تطرف المناخ وقسوته، التحفت في جيناته، وأن انحيازاته وانقساماته لا تختلف كثيراً عن الجيران والأصدقاء والأشقاء. من الصعب ان تُقنع انتحارياً قدم مُعبأً بإرث الفهم الملتبس للعراق، بأن ليس من حقه الادعاء باستعادة بغداد التاريخية المغتصبة، ومن الصعب ان تقنع ايرانياً بأن المراقد الدينية تقع في ارض اسمها العراق، تفصلها عن بلاد فارس حدود رسمية. لم يعد يكفي ان يقرأ موظف المطار، في دول الأشقاء والجيران، خانة الجنسية ليعرفك، فعليه ان يسأل ان كنت شيعياً ام سنياً ام كردياً. ولم يعد يكفي حتى ان يثق قارئٌ بمقال عراقي، فعليه ان ينبش ليعرف ان كان كاتبه صديقاً ام عدواً!. لم تمنح ايران جنسيتها لكثيرين من العراقيين الذين طردهم نظام صدام حسين بتهمة «التبعية الإيرانية»، لم يعاملوا كأبطال في ارضهم الأم. بعض الأرشيف الإيراني ينقل تهمة التصقت بهؤلاء «الخونة» الذين طالبتهم الدولة الفارسية منتصف العشرينات بالاحتفاظ بجنسيتهم الإيرانية ورفض عرض الملك العربي فيصل الأول ان يصبحوا عراقيين تماماً: «كانوا عرباً اكثر من العرب، لن نغفر لهم!». بالطبع لن يكون بمقدور رجل دين يبكي يومياً على بغداد الخلافة التي اغتصبها الصفويون، ان يفهم ان مقبرة النجف المترامية تضم آلافاً من هؤلاء الذين ظنوا، وهم يقاتلون ايران في حرب السنوات الثماني الطاحنة، انهم عراقيون تماماً. يعتبر قادة فارس أن العرب سقطوا في غواية صدّام، لكن مصطلح «العرب» ملتبس بدوره. لم يكن مفاجئاً ان يتفق الإعلام الإيراني والإعلام العربي على توحيد المصطلحات، فهناك «عرب سنة»، وهناك «أكراد»، وهناك «شيعة»، فكأن امراً مريحاً للطرفين، على ما يبدو، هو ان لا يقترن مصطلح «العرب» بشيعة العراق. لكن غواية صدام حسين اصابت الشيعة قبل سواهم، فساروا في ركاب شعار العروبة العريض، وفي حينه لم يكن صدّام في نظر العرب سوى زعيم متغطرس يريد امتصاص النفط واستعباد جيرانه، او كان نسخة سيئة عن عبد الناصر، او مجرم حرب اباد شعبه. واقع الحال ان العرب لم يسقطوا في غواية صدام «تماماً» الا بعد اعدامه. تلك اللحظة الملتبسة كانت نموذجية لأن يدفع اصدقاء ايران الذين حكموا العراق معادلة «العرب السنة» و»الشيعة» الى اقصاها، فاستخدموا دموع العرب الغزيرة لإثبات ان لا حضن يمكن ان يستوعب «انصار آل البيت» سوى حضن الجمهورية الإسلامية. الابتسامة الغامضة التي يشهرها الجنرال قاسم سليماني في كل صورة يلتقطها متجولاً في ساحات العراق ليست بلا معنى، فهي عرض «الاحتضان» الإيراني المشرّع امام الشيعة. لم يعد «الحاج سليماني» متحفظاً وكتوماً وغامضاً كما كان، فهو اليوم مغامر عابر للحدود يعيد مراجعة مفهوم «الدولة الوطنية»، ويقول ضمناً: «اذا كان المرشد يلهم شيعة المنطقة، فأنا من يحميهم». قد تكون تلك الفرضية واقع حال، لولا انها تهمل وجود السيستاني في النجف، ذلك الشيخ الذي ما زال يكابد الممانعات الإيرانية ليطرح نمطاً مختلفاً عن نظرية ولاية الفقيه، مثل ان يكون الشيعة عراقيين تماماً، وان يكون العراق «وطناً تماماً». عمامة ابي بكر البغدادي السوداء ليست بلا معنى ايضاً. فأولى وصاياه ان يتجاوز سنّة العراق بدعة «الدولة الوطنية»، فهي سلعة استعمارية، ومدخل لسيطرة الصفويين على ديار العرب، وأن يعترفوا بأن هذه ارض الخلافة، وأن سكانها هم المؤمنون بالخلافة فقط وكل من عداهم اعداء مشركون وكفار تتوجب ابادتهم. لا يحتاج البغدادي الى عمامة سوداء وأصل حسيني لتسويق نفسه خليفةً، لكنه اراد بطريقته اثبات فرضية «العرب السنة» و»الشيعة»، وأن يقول للسنة ان لا مناص من العودة الى الأصول. أصر الأميركيون على خوض اللعبة بقوانين الأشقاء والأصدقاء ذاتها: العراقيون ليسوا عراقيين تماماً. فجأة، صار بإمكان «الديموقراطية» ان تُفهم كآلية تمثيل لزعماء الطوائف، وإدارة صراع دول الإقليم، وإعادة إنتاج دائمة لمصطلح «التحالف الدولي». اهل العراق لطالما مرّ عليهم مصطلح «التحالف الدولي»، وفي كل مرة، تكون خريطة المشاركين فيه نفسها لا تتغير، مثلما لا تتغير الحال بعد هذا التحالف المزمن، وكذلك ريبة الأصدقاء والجيران والأشقاء فيهم. هل هو التباس عميق في الهوية حقاً، دفع الجميع لأن يتباروا في تحديد اقتراحاتهم للهويات البديلة؟ وما الذي تمتلكه أية هوية عبر العالم وتفتقر اليه بلاد النهرين؟ ما الذي يجعل الأشقاء والجيران مطمئنين الى اصالة بطاقات التعريف في جيوبهم؟ هل هم مطمئنون تماماً؟ أم انهم فقط لم يعرفوا العراق... تماماً؟!
|