اخلاق عاشوراء بدون رتوش

خلال الايام التي إنصرمت من محرم الحرام كانت لي فيها جولات وجولات في الكثير من شوارع مدينتي وأزقتها وأحيائها المزدحمة منها والفقيرة والمترفة على حد سواء ، أسجل من خلال تلك الجولات مايراه ناظري عما يجري وما تتناقله الالسن ومايتحدث به الناس ، وأضفت له ماحدثني به أصدقائي في المدن الآخرى القريبة .
ماشاهدته من أحداث ووقائع كانت عجيبة بشكل لايتوقعها أي إنسان فما كان يحصل لم يكن متعارفاً عليه طيلة أيام السنة بل عكسه تماماً ، ولن أبالغ إذا قلت كانت العلاقات الاجتماعية في الايام العشر الاولى من محرم الحرام أقرب الى المثالية في كل أبعادها ومن جميع جوانبها .
 الاحياء السكنية والاسواق والازقة والشوارع كانت متوشحة بالسواد وأعلام الولاء الحسيني مرفوعة على البنايات والاعمدة والابراج والبيوت معلنة الحداد على أبا الشهداء الامام الحسين عليه السلام ومتأسية بما جرى من مصائب في طف كربلاء ، وهناك عمل دؤوب من الشباب والشيبة والأطفال في نصب سرادقات العزاء وسرادقات الخدمة ومجموعات منهم تعكف على تنظيف الشوارع أمام سرادقاتها التي كانت متزاحمة فيما بينها وكأنها قاطرات متراصة مع بعضها والغريب الكل يعمل بلا كلل أو ملل بل هنالك تزاحم على العمل وكل منهم يرجوا الآخر بالإستراحة وهو يعمل مكانه ، ومع الأيام وخلال إحياء الشعائر الحسينية في الجوامع والحسينيات والسرادقات المنصوبة كان جل الكلام بين طبقات المجتمع كبيرهم وصغيرهم تستشف منه الطيبة والتسامح والتعاون وهناك روح التفاني ممزوجة بأدنى حالات التواضع بكلمات ملئها الأخوة وبعبارات جميلة تثلج القلوب تنم عن قمة في الأخلاق الرفيعة والأدب والتسامح والتودد إضافة الى درجات الكرم الملفتة للنظر، فمائدة السرادقات مفتوحة ومهيئة لكل من يمر عليها ويرغب في تناول أي طعام أو شراب فيها بل أن أصحاب تلك السرادقات ومن هم في معيتهم  تغمرهم السعادة والفرحة عندما يتوافد عليهم المعزين ويتسارعون في تقديم الخدمة لهم ، ومن يمر عليهم دون أن يتوقف يرجونه بتناول شيئاً من طعامهم أو شرابهم وتصل أحياناً الى عبارات التوسل ، هذا من جانب ومن جانب آخر ترى روح التعاون والعمل الجماعي واضحاً في نشاطهم وكأنهم خلية نحل تأبى أن تتوقف عن العمل وتقديم الخدمة .
في أوقات أخرى من الصباح أوالمساء نرى هناك أشخاصاً في ريعان شبابهم  يتوسطون  الشوارع يوزعون الطعام أو المرطبات أوالعصائرعلى أصحاب السيارات والركاب أو يهيئون الطعام لتوزيعه على بيوتات الحي الذي يتواجدون فيه أو قربه ولاتسمع أي كلمة نابية من أحد ولايبعدون أي شخص يطلب منهم طعام ، يمكن القول والجزم بأن روح التفاني والاخلاص ونكران الذات تجدها واضحة كوضوح الشمس في رابعة النهار وأنت ترى عمل هذه المجاميع بل كل أهالي المدينة دون إستثناء على إختلاف مشاربهم وعقائدهم ومذاهبهم وطوائفهم وتوجهاتهم العرقية والسياسية .
إضافة لكل ماتقدم فإن الصدق في الكلام  كان هو الآخر سائداً بين الجميع والامانة هي الآخرى يتعامل بها الجميع ، والغريب في الأمر أن الكل يعرف بأن في مثل هذه المناسبات يستوجب طلب مستمر على المواد الغذائية أو العينية وبالتالي حسب العرض والطلب لابد من إرتفاع أسعار تلك المواد ولكن العكس هو الصحيح فالمواد متوفرة أكثر وأجود من الايام العادية وأسعارها مناسبة جداً بل هناك تخفيض للسعر كونها ستصرف وستستعمل في إحياء شعائر عاشوراء ، وأخيراً الالتزام الديني والاخلاقي نراه على أوج مايكون عند الأعم الأغلب من الجميع فحينما يقترب وقت الصلاة تراهم يقفون زرافات لأداء الصلاة بعد أن يشنفوا أسماعهم بتلاوات معطرة من الذكر الحكيم وبعد أداء الصلاة تسمع حناجرهم تصدح بالدعاء والابتهال للباري سبحانه وتعالى بقبول الاعمال والنصر على الاعداء وحفظ العراق وأهله وكل المستضعفين في العالم ...............