كــــلام بــالــقيـــراط / أمـيــــــــــر الألـــــــــــوان |
"أَمَرْ" هذا هو اسمه المتداول بين عائلته الكربلائية التي لا تبعد عن بيتنا في حي الأسكان الا بأمتار معدودة ، واكثر من تناديه بهذا الأسم المدلل هي أخته الصغرى " أنعام " التي رسمها في الكثير من لوحاته الواقعية والأنطباعية ، ولا يعرف الكثير انها الموديل المتكرر في لوحاته الزيتية على وجه التحديد ، تلك الفتاة ابنة العشرين عاما والتي يستوطن الحزن الشفيف ملامح وجهها هي وحدها من تبكيه بحرقة وكمد هذه الساعة ، وكانت النية ان تسافر الى امريكا حتى تبقى الى جنبه وتتكفل برعايته ، لكن النبأ المفجع وصلني عبر رسالة على بريدي بالفيس بوك من الأخ عقيل الذي يسكن على مقربة من منزله في مدينة دلاس ، وأخبرني ان صديقنا الحبيب عبد الأمير علوان فارق الحياة ، هكذا اذن بعد شهر من الجلطة الدماغية التي باغتته تحلّق روحه الشفيفة اخيراً ، حاملةً الوانها المائية معها الى السماوات الرحيمة ،وحين كتبت نبأ رحيله على صفحتي بالفيس بوك كانت الذكريات المتشعبة التي جمعتني به تهطل مثل امطار مجنونة امام ناظري ، تذكرتُ اول لقاء بيننا مطلع الثمانينيات وكانت الحرب العراقية الأيرانية في شهورها الأولى ، لمـا جذبني صوت فيروز المنبعث من آلة تسجيل كانت موضوعة بجوار شخصين يجلسان على عتبة دار قريبة من منزل بيت خالتي في ليلة خريفية خفيفة البرد ، القيت عليهما السلام فغمغما بجواب مبهم ، لكن فضولي شجعني على اقامة حوار شاعري معهما حتى اقنعتهما بحضوري وقدّم لي احدهما كأساً مترعة بأبنة الكروم ،ومن يومها فتنت بذلك الشخص النحيف الذي يشبه قوامه فرشاة الرسم ، وتوطّدت علاقتي بعد ان تكررت فرصة اللقاء بذلك الكائن الرقيق كشغاف القلب ، كلما سنحت فرصة لنزولي بإجازة من جبهة الحرب التي كان مشاركا فيها هو الآخر ولكن على جبهة الشمال من الوطن ، كنت امضي ساعات طوال معه عندما يكون مزاجه رائقاً ويبدأ برسم لوحة جديدة في باحة دارهم الصغيرة ، كان يستمع الى اغان شعبية مشبعة بالحزن الثقيل بينما فرشاته تئن على قماشة اللوحة بألوانها الزيتية الكابية و الكثيفة ، صوت سعدي البياتي ينوح " تانيني صِحتْ عمّي يجمّال " وعبد الأمير علوان في لحظة استغراق عميقة مع لوحته التي جسّد فيها ذلك العناق العنيف لجندي معتوه يحتضن عاشقته وكأنه يريد التهام وجهها بفمه الذي تصول فيه الشهوة الملتاعة والجوع الجنسي ، وعندما تبدأ اللوحة بالتشكّل الأخير معلنة عن هويتها يسرع الى تغيير شريط الكاسيت ويستمع الى اغاني فيروز الحنونة " نطرونا كتير ، لا عرفنا اساميهم ولاعرفوا اسامينا " ويظل يدور حول اللوحة مثل جواد هائج وهو يدخّن بشراهة واضعاً لمسة هنا ولطخة هناك على نسيج اللوحة ثم يستكين فجأة وبنصف ابتسامه يردد مع نفسه وكأنه يحدثني او يكلّم اللوحة " خلصتْ اشتعلْ يومكِ " ، اجل كنت اراقب عذاباته الأليمة وحزنه العميق وحيرته المرتبكة وقلقه المتوحش عندما ينهمك برسم لوحاته الزيتية ، اما عن لوحاته المائية التي كان يرسمها امامي ، كانت الدهشة تحاصرني وأفقد القدرة على الكلام عندما ارى حركة فرشاته الناعمة جدا في كأس الماء ، حتى يخال اليك ان عبد الأمير علوان لا يغسل فرشاته بذلك الماء الذي يبقى محافظاً على رونقه وصفائه برغم انه غمس فرشاته فيه لعشرات المرات ، كنت اراقب عن كثب كيف ان ريش فرشاته يلامس سطح الماء بحساسية مذهلة كما لو ان فرشاته تدغدغ برقة متناهية خصر الماء ، بينما الألوان المائية ترفرف مثل فراشات بمجاهيل فضاء لوحته ، واذكر في احدى زياراتي الى مرسمه القريب من قاعة الرواق عند شارع السعدون ، وجدته يرسم وجه احد السوّاح الأجانب الذي جلس على كرسي امامه ، وبهدوء جلست في ركن المرسم ولم اكلمه حتى لا اربك فرشاته السارحة بعذوبة ألوانها المائية ، كان يتوقف لبرهة حتى يرتشف جرعة من "عصير الشعير" ثم يعود متأملا وجه السائح بدقة وتتحرك اصابعه راقصة بهدوء عجيب على الورقة ، وماهي الا دقائق معدودة حتى نهض فجأة كالملدوغ وهتف متحسرا " خلصتْ " وحين اصبحتْ الرسمة بيد السائح فغر فمه منذهلا لتطابقها المتقن مع شكل وجهه الفرنسي ، اجل فعبد الأمير علوان يمتلك قدرة هائلة برسم البورتريت ، مثلما يبرع بالسيطرة على الوانه الزيتية ، غير ان فرادته تبدو واضحة للجميع عندما يرسم اللوحة المائية ،حتى تشعر ان الألوان المائية تطيعه وتأتمر الى حركة فرشاته بدقة متناهية ، فلقد رسم المطر والريح حتى تكاد تشعر ان المطر ستبتل منه الورقة وان الريح ستحرك اللوحة المحاصرة فيها ، وكان يسعى لرسم الروح ، لكن روحه الطيبة جدا خذلته قبل ان يحقق ذلك الحلم العسير ،آه يا " أَمَرْ " هل تذكر القميص البُني الأنيق الذي نزعته في مرسمك وأهديتني اياه في خطوبتي اثناء سنوات الحصار ؟ هل تذكرهُ ؟ فمازال معي هناك معلّقاً بدولاب الملابس في استراليا ، وهل تذكر لوحة العازف الذي يلاعب اوتار الكمان في صحراء قاحلة وثمة غمامة سوداء قادمة من عمق اللوحة حاملة بيدها سيف لأغتيال العازف ؟ تلك اللوحة اهداني اياها علوان في باكر سنوات صداقتنا ، وعندما زرته الى مرسمه في بغداد بحصار قاس ولئيم طالباً منه حفنة دنانير تساعدني على اكمال مراسيم زواجي قال لي بصوت يشوبه المرح : حتى لا تصبح النقود التي تأخذها منّةً مني ، اقترح عليك ان تبيعني لوحة العازف وتأخذ ثمنها كأستحقاق وليس كمعونة ، وهكذا جئت بلوحة العازف بينما ملأ جيبي بالدنانير وهو يضحك ثم قال : شاعر مثلك لا يصح ان يكون مديوناً للناس انما الناس مديونيين لهُ وانا احدهم . يااااااااه يا " أَمر " لقد خسرتك قبل ان يخسرك الوطن ، خسرناك جميعاً وخسرتك الألوان ، خسرتك الألوان المائية التي كنت أميرها عن جدارة واستحقاق ، اجل يا أمير الألوان المائية ان جميع الألوان ارتدت ثياب الحداد عندما سمعت نبأ رحيلك ، ويا لرحيلك المفجع الذي تزامن مع استشهاد الأمام الحسين ع في العاشر من عاشوراء ، فكربلاء لم تكن تبكي في البلاد فقط ، انما رأتها الملائكة تبكي على جثمانك الكربلائي في امريكا ايها الغريب الجميل ، طوبى لروحك ولألوانك التي ارتدت جميعها ثياب السواد . |