3 - الدكاترة زكي مبارك يثيرني فأثير أثيره - الحلقة الثالثة -
9 - المقدمة :
عجيب غريب أمر هؤلاء العباقرة الغريزيين ، أيّ الذين تغلب غريزتهم على عقلهم ، ولو أن للغريزة عقلها الخاص ، أو قل بكلمة أدق حين تتصرف الغريزة بسرعة فائقة ، و بشكل لا أرادي دون أن تسمح للعقل أن يصقل ردود الأفعال على المؤثرات الحسّية والمعنوية ليجعلها مقبولة ، راضية مرضية ، بل ومصفق لها من قبل المتلقين من خلائق هذا الناس !!
أقول :عجيب ، لأن سرّ خلقتهم العجيبة، فوقها عجب عجاب آخر ، إذ منحتهم الطبيعة كل سرائر العبقرية والنبوغ والإلهام الإنساني ، وجردتهم من مقبولية الناس لهم ، وإعجابهم بهم ، بل والرضى منهم - في حياتهم - لدرجة أصبحوا فيها عالة على مجتمعاتهم في أرزاقهم ، من قبل كان ابن الرومي وأبي حيّان التوحيدي ، ومن بعد السياب ، وهذا الدكاترة المبارك أمامك ، هذا على سبيل المثال ، لا الحصر طبعاً ، وأقول غريب ، والحق أنه أمرُ غريب أن يعيشوا بين أقرانهم العباقرة والأفذاذ غرباء ، كأنهم - أعني الأقران - لم يتفهموا ، ولا يريدون أن يتفهموا طبيعة خلق هؤلاء ، لذلك هؤلاء يعيشون غربة مضاعفة ، إضافة لغربتهم وتغربهم كعباقرة موهبين مثل أندادهم الباقين ، إنا لله وإنّا إليه راجعون ، كما يقولون ولا يدركون !!
التصوف في حياته
 ولكن عبد الحميد مدكور في مقالته ( زكي مبارك والتصوف) يُرجع سلوكيات دكاترتنا لأسباب موضوعية قائلاً " أن الدراسات التي تناولت زكي مبارك اتجهت في اغلبها إلى دراسة حياته وأدبه وانشغلوا عن ما قدمه من دراسات عن التصوف وأفكاره ورجاله، مع أهميتها البالغة، ويكفي للتدليل علي هذه الأهمية انه نال في هذا النوع من الدراسات اثنين من شهادات الدكتوراه الثلاث " .
ويواصل بما معناه أن البواعث التي دفعته إلى العناية بالتصوف إنشأت من البيئة التي نشأ فيها ، وطبيعته النفسية ، والظروف التي أحاطت بحياته التي وصفها بأنها قامت علي قواعد من الأحزان الثقال، وقد دفعته إلى أنواع من الصراع والمنازلات، كما دفعته إلى شعور مرير بالغربة في كل مكان، فكان يقول عن نفسه " إن الغربة هي وطني الأول والأخير"، ومثل هذا الشعور يدفع صاحبه إلى التمرد علي المألوف، والمسارعة إلى نصرة المظلوم، واتجه بسبب هذا كله إلى نوع من الرومانسية الشفيفة ، وبين الرومانسية والتصوف خطوة عبرها زكي مبارك بنفسه في أحضان هذا التصوف ، انتهى .
ومن وجهة نظري أن العوامل الوراثية والبيئية متمازجتان حتى الاندماج التام ، فيصعب على الدارس والباحث الفصل بينهما ، ولكنني أنا أميل إلى غلبة الموروثات الجينية في مثل حالة الدكاترة المبارك سواء توارثها صاحبنا من آبائه ، أو حدثت في خلاياه الجنسية أبان الانقسام الخيطي طفرة وراثية ، فسار بها إلى معامع الحياة ، فازدادت نموا واتساعاً بتأثير البيئة .
10 - معاركه مع أستاذه الدكتور طه حسين ، وقد استمرت تسع سنوات بدأت فى عام 1931 إلى عام 1940:
وعقبى هذا الاعتداد بالنفس ، والثقة بالذات ، والتصادم مع الغير لإثبات مقدرته بعد تجاهل أمره ، أخذ يقذف بالقصور الرموز الأدبية كي يقول أنا هنا ! ، ومن مشاكساته تحديه لأستاذه الدكتور طه حسين حيث قال له أثناء إحدى المناقشات فى مدرج الجامعة " لا تتعالموا علينا ففى وسعنا أن نساجلكم بالحجج والبراهين "، لم يغفر الأستاذ هذه الزلة من تلميذه المشاكس المتمرد ، وإنما كتمها في نفسه ليظهرها أنى تمكّن منه !! ، والحق يقال لا ندري كم كان هذا الزكي المبارك يتعرض لأستاذه العميد !! وهم - رحمهم الله جميعاً- قد خدموا الأدب العربي أيّما خدمة في هذه المساجلات والمعارك والخصومات ، والعقول تقدحها العقول !!
والحقيقة تعدت المعارك عن حدودها الأدبية الثقافية الفكرية لتزج نفسها في معمعة المناصب الوظيفية ، والأمور المعاشية في أكثر من مرّة ، فعندما عاد الدكتور طه حسين إلى الجامعة رئيساً لقسم اللغة العربية ، وكان يستشار في تجديد عقد الأساتذة من إدارة الجامعة ، وفي حينها انتهى عقد الدكتور المبارك ، ولما سُئل الدكتور طه حول تجديد العقد ، أجاب إدارته قائلاً : " أنا لم أستشار في تعيينه، فلا استشار في تجديد عقده" ، هذه العبارة كانت كافية لترمي الدكتور المبارك إلى الشارع بدون مرتب ، وتقطع رزقه بعد فصله ، ولم ينل أي تقديرأو لمسة وفاء من المؤسسات التي خدمها ، وأجهد نفسه لإصلاحها، وحتى عندما كان بوظيفته من قبل ومن بعدُ نراه يتشكى من ضيق الرزق قائلاً " إن راتبي في وزارة المعارف ضئيل، وأنا أكمله بالمكافأة التي آخذها من البلاغ أجرا على مقالات لا يكتب مثلها كاتب ولو غمس يديه في الحبر الأسود " ، وعبر عن معاناته ومعاركه وشدّة بأسه في مطولته الشعرية ، ومما يقول فيها :
إني ( زكي ) وخير الناس خلاني *** "مبارك" تعرف الأقدار أوزاني 
كنت الملاكم والقفــــــاز يعرفني **** في حلبة الفكر متبوعا بفرسان 
ولي عقول كشعر الرأس عدتها ****** والفكر فيها محاريب لرهبان 
وليس في الرأس عفريت يحركها ****وفي يدي قلمي والنصر عنواني 
أعوذ مـــن همزةٍ بالله يحفظني **** من نفث جن ومن نزغات شيطان
لهذا كلّه ، وما سنذكره من بعد ، وصف حياته بأنها قامت علي قواعد من الأحزان الثقال !!
لا يتخيل القارئ الكريم هذه مشكلة المبارك في مصره ، بل هي مشكلة المثقفين والأكادميين والنابغين والعباقرة في جميع أقطار هذا الوطن الممتد من البحر إلى البحر ، وربما مصر الكنانة أرحم بكثير من بلدان عربية أخرى ، تحارب رجالها بالسيوف والقيود ، ولا ترميهم إلى شوارعها ، بل إلى خارج حدودها ، ورجال العراق الحبيب الكبار عانوا ما عانوا في هذا التاريخ المعاصر من مآس ٍ مريرة يشيب لها رأس الوليد ، وتكلمنا عن معاناة السياب الرهيبة والرصافي المريرة ، والجواهري الأليمة ، والشيخ الشبيبي الغريبة في حلقات سابقة عنهم!! أقول قولي هذا ليس من باب التخفيف عن مظلومية ومعاناة مباركنا ، بل لتذكر رجالاتنا ، وتصحيح مسيرتنا ، واحترام عبقريتنا ، وبالتالي وجودنا .
مهما يكن قد روى (وديع فلسطين) في مقدمته لكتاب طه حسين " ان زكي مبارك كان يضيق بطه حسين لاعتقاده بأنه وقف في طريق عمله أستاذاً في كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول برغم درجات الدكتوراه التي يحملها من القاهرة، وباريس، وعمل مفتشاً للغة العربية فقال زكي مبارك عن عميد الأدب العربي : انه أمي لا يقرأ، ولا يكتب ..." ، ولا نكمل روايته - إن صحتْ - فهي قاسية جداً ، وكان يعني أن الدكتور طه ( بصير) ، ومن يقرأ له ويكتب عنه زوجه ، ولكن العميد قبل الزواج درس واجتهد ونال الدكتوراه ، وعمل وجدّ وقرأ وكتب وألف...واستحق بجدارة لقب عميد الأدب العربي ، ولكن أيضاً - والشيء بالشيء يذكر - لا نقبل كلمة العميد عن الدكاترة ، واصفاً كتابه ( النثر الفني ..) بقوله : " كتاب من الكتب ألفه كاتب من الكتاب " هذا استصغار بحق الناقد والكاتب والشاعر العبقري الدكاترة المبارك ، ومن حق الأخير أن يقول : طه حسين يضطهدنى ...!!!
ليعلم العباقرة الكبار - وأنا أعتز وأفتخر بهم جميعاً من عربٍ وعجم ، ما دام الإنسان وجهة الإنسان - أنّ الأجيال على ضمائرها في الحكم تعتمدُ ، صدق الجواهري شاعر العرب الأكبر حينما خاطب صديقه الدكتور سهيل أدريس ، وذلك عندما حاول الأخير التقليل من شأنه ، ومنزلة الشعر العمودي الأصيل بقوله 
و"صاحبٍ" لي لم أبخَسْهُ موهِبةً *** وإنْ مشَتْ بعتابٍ بيننا بُرُد
نفَى عن الشعرِ أشياخاً وأكهِلـَـة ** يُزجى بذاك يراعاً حبرُه الحَردُ
وما أراد سوى شيخٍ بمُفردِه******* لكنَّهُ خافَ منه حين يَنفرد
بيني وبينَك أجيالٌ مُحَكَّمَةٌ ***** على ضمائرها في الحكم يُعتَمدُ
والشيء بالشيء يذكر - كما قلت وأقول مراراً - هنالك علاقة ود متينة جداً بين عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين ، وشاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري ، والأول يكبر الثاني بعشر سنوات ، ومن المعروف أن العلاقة توثقت بينهما منذ مهرجان المعري بدمشق ، وبيت الجواهري الشهير :
لثورةِ الفكر ِ تاريخ ٌ يُحدِّثُنا *** بأنَّ ألفَ مسيحٍ دونها صُلِبا
وقلت سابقاً إن الدكتور طه حسين من أكبر المعجبين والمدافعين عن شيخ المعرة ، وهذا يناقض اجتهاد الدكاترة المبارك كما ذكرنا ، المهم قام العميد طه هاتفاً مستحسناً مستزيداً من الإعادة والإعادة ، ويقول ( بألف ألف مسيحٍ دونها صلبا ) ، وتقدم نحو الجواهري معانقاً ومنادياً به كخليفة للمتنبي العظيم ، ثم ترسخت العلاقة بينهما في مؤتمر المثقفين العرب.
وفي أوائل عام ( شباط) 1951 ، زار الجواهري مصر، بدعوة خاصة من العميد الدكتور طه ، وكان وزيراً للمعارف آنذاك ، فنزل ضيفاً مكرماً معززاً على وزارة المعارف المصرية ، وألقى قصيدته الشهيرة :
يا مصر ُ تستبقُ الدهورُ وتعثُرُ *** والنيلُ يزخرُ والمِسلّة ُ تُزهرُ
وبَنوك ِ والتاريخُ في قصبيهِما *** يتسابقان ِ فيُصهرون ويُصهرُ
هذا شيء وإنصافنا للدكاترة زكي مبارك شيء آخر ، وهذا لا يعني أن الأستاذ الكبير العقاد ، والعميد الدكتور طه حسين ، والكاتب الكبير الأستاذ المازني أقل مرتبة وتأثيراً في وجداني وفكري من الدكاترة ، ولكن الآن أقف بموقف محامي الدفاع عن أحد عباقرتنا ، والحكم للفكر العربي وذوقه ...!!
11 - زكي مبارك بين المازني وطه حسين :
هذه الكوكبة من عباقرة الأدب العربي ونابغيه الذين أطلّوا بإشعاعاتهم الفكرية والأدبية منذ مطلع القرن العشرين ، وممن سنتطرق إليهم بإشارات خلال فقرتنا الآتية ، كانت مواليدهم ووفاياتهم كما يلي :
مصطفى صدقي الرافعي : ( 1880 م - 1937م).
أحمد أمين إبراهيم : ( 1886م - 1954 م) .
عبد العزيز البشري ( شيخ الساخرين) : ( 1886 م - 1943 م)
إبراهيم عبد القادر المازني : ( 1889م - 1949م)
عباس محمود العقاد : ( 1889م - 1964م).
طه حسين علي سلامة : ( 1889 م - 1973م)
زكي مبارك : ( 1891 م - 1952م)
وهذا يعني كان أكبرهم سنّاً الرافعي ، وأقلهم بقاءً في الحياة ، وأصغرهم مباركنا ، ولم يكن حظه من البقاء أكثر بكثير من الرافعي والبشري، وحظه حظ مازنه ، وأكثرهم حظاّ بالبقاء العميد طه ، وكان هذا الأخير العميد واسطة العقد بين صديقه أحمد أمين ، وخصمه زكي مبارك ، ومن العجيب في السنة نفسها (1926م) التي عكف فيها عن تجديد عقد المبارك ، يستدعي صديقه الأستاذ أحمد أمين ليتبوأ مقعد التدريس في كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول ( المصرية ) ، ومما يجدر قوله كان جميع من ذكرناهم من الكوكبة يتجاهل أمر المبارك ، ويستصغر شأنه ، بحكم صغر سنّه ، ومشاكساته ، وزهوه بنفسه ، إلا المازني ، فهو الأميل إليه لتواضعه معه ، وعدم حدّته، بالرغم من أنه كان كاتباً ساخراً ، ومن سخرياته التي تورط بها مباركنا لمّا صدر كتابه النثر الفني بجزءيه الكبيرين ، وقد ترجمه عن الفرنسية بعد أن نال به شهادة الدكتوراه من السوربون ، وأضاف إليه ما أضاف ، بادرلإهدائه لصديقه المازني الذي كان يعترف مراراً بقدرة وألمعية المبارك في البحث والدراسة عن دراسة متأملة وفاحصة لمؤلفات صاحبنا ، ولكن المازني خيّب ظنّه ، وكتب عن قصة ساخرة ليست كبقية القصص تتضمن إرسال الكتاب للتجليد ، وما حلّ به وبالكتاب من أعاجيب عن تأخره ، وملاحقته ، والسيول والقاذورات تتلاقفه ، وتتلاقف طربوشه ، وطربوش الكتاب الثمين المسكين معرضاً عن مضمون الكتاب ودرره وقيمته ، فكسر خاطر صاحبه ، وضيّق عليه مساربه ، ومن هنا نأتي للدكتور طه حسين الذي وجد مدخلاً للسخر من المبارك والنيل منه ،فكتب مقالا هازئا بمجلة (الرسالة) تحت عنوان (النقد والطربوش وزجاج النافذة) ، وختم الدكتور طه حسين مقاله بقوله : "ويل للكُتاب والمؤلفين من دعابات المازني ومجونه , وويل للكُتاب والمؤلفين من ألغاز المازني ورموزه , وويل للمازني من طغيان خياله وجموحه ....!!
ولكن هذا كلّه لم يشفع للدكتور طه من قلم المازني الجريء لتجرأ ه على عدم الموافقة لتجديد عقد الدكاترة مبارك بغض النظر عن مدى مشاكسات الأخير وتمرده على أستاذه العميد ، لأن رحاب الجامعة لا يتسع للثار ، وقطع الأرزاق ، لذلك كتب الأستاذ المازني - وسلامة موسى أيضاً ساند الدكاترة في هذا الموقف - مقالاً هجومياً لاذعاً توجه به لصديقه الدكتور طه حسين مخاطبا : "ما كدت ترجع إلى الجامعة حتى صببت نقمتك على الدكتور زكي مبارك تلميذك القديم ،الذى كان من حقك أن تفرح به ، ولكنك قطعت عيشه ، وحرمته وظيفته الصغيرة لأنك صرت ذا سلطان وقد كنت أصدق أنك تفعل كل شيء إلا هذا ... إنك إذن من أصحاب السلطان يا صاحبي ومن يملكون أن يقطعوا أرزاق العباد أو يصلوها فلست اليوم بالأديب الذي عرفته وأحببته وأجللته ، وإنما أنت رجل يدني ويقصي ويرزق ويحرم ويطعم العيال أو يجيعهم ، ويضرب اليد التي ترتفع باللقمة إلى الفم فيطيرها ويوقعها في التراب ، لتلتقطها الكلاب والقطط ويأبأها على أخيه الإنسان . وإني لأحدث نفسي أحيانا بأني لو كنت أقول الشعر في هذه الأيام لرثيت طه حسين ، فإنه يخيل إليّ أنه قد مات طه الذي عرفته وأحببته وأكبرته ، وجاء غيره "
هذا الكلام القاسي المرير لا يمكن لأي شخص أن يقوله لعميد الأدب العربي غير صديقه المازني ، وهذه المعارك تشير إلينا ما كان للفكر العربي من مساحة شاسعة لحرية الرأي دون تملق أو رياء أو خوف ، ولكن في الوقت نفسه لم يسلم الدكاترة المبارك من لسان صديقه المازني وقلمه ، ولا المازني كان يتملق لصديقه الآخر بعد أن شنّ هجومه الذي لا يطاق على صديقه الأول ، فقال في تصريح صحفي لـ ( آخر ساعة : " لو أخلى زكي مبارك كتاباته من الحديث عن زكي مبارك لكان أحسن مما هو الآن" ، والمبارك لم يتحمل بالطبع صراحة المازني ، فرد عليه معاتباً بمقال طويل في مجلة ( الرسالة ) ، لأنه يعدّ مازنيه من مريديه ومقربيه ، وإن أردت العكس فالعكس ، على حين صاحبنا لم يرد على الدكتور طه - ومن قبل ومن بعد كتب مقالات ومقالات يهاجم غيها العميد ، ولم يبخل العميد بالتندر على المبارك ، والنيا صور !! - أقول ولا على الأستاذ العقاد ، وقد قالا القول نفسه عنه :
وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضةً *** على المرء من وقع الحسام المهنّدِ
هل هو ظلم ؟ نعم ... إنه لظلم ، لماذا ؟ تكلمنا كثيراً عن هذا الموضوع بحلقات عديدة عن الأنانية والفخر لدى عباقرة الفن والشعر ليرجع إليها من يشاء !! وننقل إليكم فقط هذه الفقرة مما قلنا للاستئناس : وما الفخر إلاّ أحد مظاهر ( الأنانية) ، يظهر عند بعض عامة الناس كعقدة النقص ، وإن الشعور بالنقص ، لا يتحول إلى عقدة ما لم يضف الإنسان إلى ( أناه) إضافات زائفة ، فالأنا المضخمة تسعى إلى المفاهيم المتجمعة كالكبرياء والجاه والثروة ...إلخ لتقارن ذاتها بكلّ (أنا) أخرى وتكون مثلها ، الأمر الذي يشعرها بنقصها ( عقدة النقص) التي أشار إليها أدلر ، وعقدة العظمة التعويضية تضيف للفردية (وهي الأنا) إضافات كاذبة لكي تغطي الشعور بالنقص ، الأمر الذي يجعل الشعور بالنقص يتضخم ، وإن عقدة النقص وعقدة العظمة أمراض نفسية ، أما الشخصية وهي متوازنة بشعورها ولا شعورها ، فأنها تضيف إلى ذاتها إضافات صحيحة ، وغير مجتمعة ، وغير زائفة ، ، وقوامها الوعي ، ، ومن هنا نرى العباقرة والشعراء والفنانين يفخرون بأعمالهم ، ويزهون بأنفسهم ، وبسطاء في سلوكهم ، ومتواضعين في حياتهم ، وينتبهون لنبوغهم واتقاد ذهنهم إلى الخيط الرفيع بين الذل والتواضع ، وبدافع غريزي غير مصطنع.
وعلى ما يبدو لي من هذه المعارك الأدبية الحسينية المباركية التي ثار ضجيجها وعجيجها سنوات وسنوات ، هي صراع بين روح عالم متطبع، يلتف حوله الناس لتعقله ، ومقدرته على كسبهم بمعسول الكلام ، وهدوء البال ، وبين نفس فنان مطبوع ، يزهو بنفسه ، وبفنه ، يعجز عن مداراة هذا الناس ، والحذر منهم ، فشتان بين سلوك وسلوك ، وعارك ومعروك ، والدنيا صور وحظوظ وأقدار ، وظن خيراً ، ولا تسأل عن السبب !! !
والأستاذ الكبير العقاد أيضاً ذهب بعيداً في عدم إنصافه للدكاترة مبارك حينما قال عنه : إنه أقل الكتاب شخصية في حياته الكتابية ، وإن أسلوبه الكتابي معروض لتوقيع من يشاء !
ما هكذا يا أستاذنا العقاد !! الدكاترة المبارك له أسلوبه المميز ، ونقده المتميز ، لا يستطيع أحد أن يُخطئ قلمه ، بساطة في الأسلوب ، وضوح في الرؤية ، جرأة في النقد ، صدق في العبارة ، رقة بكلماته وخيال في رؤاه ...!!
12 - الدكاترة يودع دنياه :
تجمع المصادرفى ليل يوم 22 كانون الثاني 1952،المصادف 25 من ربيع الآخر 1371 هـ سقط زكى مبارك في شارع عماد الدين فشج رأسه شجًا كبيرًا - ويقال إثر حادثة تصادم بعربة حنطور - فحمله اصحابه الى منزله مغمى عليه، وفى صبيحة اليوم التالي نقل الى مستشفى (الدمرداش ) فلما اجريت له عملية جراحية، ظهرأن الامل مفقود بنجاته ، فقد اصيب بارتجاج فى المخ من اثر تلك السقطة على الأرض، وبهذا فاضت روحه الى بارئها فى ذلك اليوم 23 كانون الثاني 1952 ، فخلف هذه الدنيا وله من العمر ستون عاما . وتذكر بعض المصادر أن آخر مقالاته نُشر في جريدة البلاغ تحت عنوان (مسيو دى كومنين) ، يتحدث فيه عن حياة أحد أصدقائه ، وهو المذكور بالعنوان ، وتوفي بعده بأسبوعين ، يُعد الدكاترة من جيل الرواد الأوائل ، واشتهر بجرأته ، ومشاكساته ، ومعاركه مع أستاذه الدكتور طه حسين ، وزهوه بنفسه ، وكثرة الحديث عنها ، وعن ألمعيته وعبقريته ، ويثني كثيراً على مؤلفاته ، مما نفّر عنه مريديه ، وزملائه من عباقرة الأدب والفن ، بل جعله معظمهم هدفاً للذم ، والتطاول عليه حتى وصل إلى درجة قال فيها : " اخشى ان لا أظفر بكلمة رثاء ، يوم يشيعنى الناس الى قبرى ، فذاكرة بنى آدم ضعيفة جدا فهم لا يذكرون الا من يؤذيهم، اما الذى يخدمهم ويشقى فى سبيلهم فلا يذكره احد منهم بالخير .... " ، لذلك قال الزيات عنه :" لو استطاع زكى مبارك ان يتسلق الظروف ،، ويصانع السلطان ويحذق شيئا من فن الحياة لاتقى كثيرا مما جرته عليه بداوة الطبع وجفاوة الصراحة " .
ولما أصدر الدكاترة المبارك ديوانه الأول ، وأهداه إلى صديقيه خليل مطران والمازني، وهما ممن يستقانه كما يرى ، لم يخيب أمله الأول ، وكان رائد التجديد في الشعر العربي ، فقرضه بقصيدة جيدة ، منها :
قرأت ديوانك لا أنثني *** ** عن مونق إلا إلى مونق
كأنني في روضة تزدهي*** بالمزهر الغضّ وبالمورق
أمعرض أنت عن الشعر يا * من شعره هذا ، فما تتقي ؟
هل في توقّي غاية بعده *** من مرتقي يبلغه المرتقي ؟
أما الأستاذ المازني ، فكان في تقريضه شيء من تجريد الشاعرية عن دكاترتنا حين قال :حين قال : " مزية شعر الدكتور زكي مبارك التي تبدو لي هي حسن السبك ، وجودة الصياغة ، ولقد نسيت معانيه بعد طي الديوان ، ولم يعلق بنفسي منها أثر ، ولم يستقر بذاكرتي طيف ، ولكن الدكتور زكي مبارك أديب كبير ، وبحاثة له آثاره المشهودة ، ودراساته المعروفة ، وعالم من كبار العلماء ، وله في ذلك فضل غير منكور ، لا يزيده أن يكون شاعراً ، ولا ينقصه ألا يكون "
ودكاترنا المبارك احترم رأي المازني في شاعريته ، بل اعتبرها كلمة ثناء ، ودوّنها في خاتمة الجزء الثاني من النثر الفني ، وهذه منتهى الأمانة العلمية والأدبية .
وقد نظم المجلس الأعلى للثقافة 28 تشرين الأول (أكتوبر) 2006 احتفالية ثقافية علي مدي ثلاثة أيام بعنوان "زكي مبارك.. قراءة متجددة" شارك فيها 35 باحث وباحثة بتقديم عدد من الشهادات والأبحاث التي تضمنت حياته وفكره وأدبه ومعاركه
قدم للندوة الدكتور صلاح فضل مقرر لجنة الدراسات الأدبية بالمجلس، والذي بيّن أن الذاكرة الثقافية قد أغفلت رموزاً من الرواد الأوائل ومن أبرزهم الدكاترة زكي مبارك الذي قام بالثورة الأولى في الحياة الثقافية المصرية ، فقد كان خطيباً باللغة العربية والفرنسية واشترك في ثورة 1919م وسجن مع زعمائها وكان وقتها في سن الثامنة والعشرين ، وأضاف: حمل شعلة الحرية وهي متقدة في عنفوانها فكان ثائرا سياسيا وعلميا، كان في لجنة إصلاح الأزهر، وروحه الثورية لازمته منذ اختيار موضوعاته الأولى فاختار أن يدرس تاريخ العشاق "عمر ابن أبى ربيعه"، وكانت معاركه الكثيرة تجلي من تجليات الثقة.
وذكرنا كلّ هذا في دراستنا المتواضعة ، وبقى شيء من الجدير أن نذكره ، إن حفيد الزكي المبارك الأستاذ عادل الشامي قدم بحثاً عن "حديث الحب مع جده" ، يذكر فيه عن مدى تعلق جده بالحب ، وترنمه بقصائد العشق والغرام ، وقد اصدرمباركنا في حياته ديوانين هما (ديوان زكي مبارك ) و(ألحان الخلود) ، وبعد رحيله تم جمع وتقديم قصائد لم تنشر من قبل وصدرت في ثلاثة دواوين وهي : (قصائد لها تاريخ ) ، و (أطياف الخيال ) و (أحلام الحب ) .
وها قد أنتهينا من الحلقة الثالثة ، ونحن بانتظارك في ملتقى الحلقة الرابعة ، وحياته وذكرياته في العراق ، وما العراق إلا شجون وشجون !!